السبت، 25 أبريل 2015

العالم الأكبر

(1)
اختلف العلماء والأدباء في أوساطهم وأوساط أتباعهم ونقادهم في مدى صغر أو كبر أهمية الإنسان، ومقارنة بماذا ولماذا. وقد نُقل عن الإمام علي بن أبي طالب: «وتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر». الإنسان: جرم صغير أم عالم كبير؟

(2)
كبير جداً هذا الإنسان الذي يشطر من الذرة قنبلة يدوي صداها وآثارها لسنوات طويلة، وصغير جداً هذا الإنسان الذي ينهار أمام فيروس يفترسه دون أن يراه ويخضعه دون أسلحة. عظيم من يظن في لحظة بأنه خالد عابر للأزمنة، وتافه من يعرف في لحظات بأن لا شيء سينقذه وسيسعفه من نفسه أو غيره. لأي من الفريقين أنتمي؟ إلى من يرفع في مكانة الإنسان بالنسبة للكون وغيره من المخلوقات، أم لمن يصغر من حجمه وتأثيره وما وصل إليه؟ أنا ممن يعطي الإنسان مكانته الخيالية لنفسه، وحجمه الواقعي واللاواقعي لغيره. للإنسان الحق في أن يعطي نفسه المكانة التي يتمناها والأحلام التي يسعى لها، وإن كانت من عرائس مخيلاته، وأن يظن في ذاته ما يريد، سواء أجعل من نفسه سلطاناً من سلاطين بروناي، أو متسولاً من متسولي نيويورك، أو رجلاً لا يزال يبحث عن هوية أو جنسية، أو حتى وجه جديد! أما حجم الإنسان بالنسبة لغيره، فله صفة الواقعية واللاواقعية، فالناس لا ترى الواقع دائماً، وفي حالات كثيرة تختار ألا تراه أو تصر على أن ترى ما يعجبها أو ما تستنكره أو تسيء الظن فيه، وبهذا تكون اختارت ألا ترى الواقع أو الحال. ومكانة الإنسان الواقعية لي: «هي مركزه، وما وصل إليه بعد عمل أو جهل»، وما يستطيع أن يقوله عن نفسه بكلمات بسيطة سواء طالت أم قصرت جمله.

(3)
الإنسان خُلق لتظن نفسه -الأمارة بالسوء- أنه كبير، ولكن ليس للدرجة التي ينافس فيها إبليس، لهذا تمر الأيام على الناس، ويشعر فيها كل واحد منهم بأن مشاكله هي الأكبر، وهمومه هي الأعظم، وأن بطريقة أو بأخرى الطائرة التي تأجلت فلم يلحق رحلته في وقتها كان فعلها خيرة له، خصوصاً من بين 849 راكباً لم يركبوا الرحلة ذاتها المتوجهة للوجهة نفسها. وتمضي الأيام التي لا يرى فيها هذا الإنسان سوى ما حوله من جمادات ومتحركات في سعيه في هذه الدنيا، وتترسخ فكرته بأنه مركز الكون، وإن تواضع قليلاً قال: إنه مركز كونه على الأقل، «أي ما يدور حوله»، ومعنى هذه العبارة تحديداً بأنه الشمس وما حوله كواكب وأقمار. ينسى هذا الكائن أنه في نفس الوقت الذي يقوم فيه بأعماله هنالك محاسب صيني يشارك 50 محاسباً آخر في دراسة ستدخل في مفاوضات البنك الآسيوي في بكين، وموظف مبعوث من وزارة الخارجية الأميركية يركض في ممر في البنتاغون حاملاً ملفاً عن عاصفة الحزم، وامرأة في نيجيريا ترفض ذهاب ابنتها ذات 19 ربيعاً لبيت أختها لوحدها خوفاً من «بوكو حرام»، فتخرج معها وهي تشد على يدها. ينسى المشغول في نفسه، القرصان الصومالي المنتظر بملل على الشاطئ مرور سفينة يتيمة على راداره يقدر عليها وعلى مؤنتها، والطفل الفلسطيني الجالس خارج خيمته في اليرموك بلا حراك بلا طعام بلا أمان، يعرف مما يسمعه بأنه محاصر من قبل أناس كثيرين، وأن ذلك يبعث على الخوف والرهبة كما يرى من أهله، ولكنه يجهل سبب الحصار وفائدته، وهو من هُجر من بلده.
مليارات المليارات من الأحداث المقدرة تحدث وتتوالد من حول كل إنسان في كل مكان وفي كل لحظة، وفي لحظة من هذه اللحظات يشعر الإنسان بأنه هو سيدها، وأن ما يحدث حوله يتمحور حوله، كما هو حال الشمس والمجموعة الشمسية، ناسياً أو متناسياً مجرة درب اللبانة، وباقي المجرات والفضاء والكون، وأهم شيء، الثقوب السوداء البالعة لأي شيء، حتى النجوم!


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
المصدر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحقيقة الفلسطينية

        الشمس لا تُغطى بغربال، و الحقيقة كذلك. طوال العقود الماضية، كانت حقيقة ما يجري في فلسطين، و الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُملى على م...