السبت، 26 يوليو 2014

مستشفى يُمرض نزلاءه

(1)
 أكتب عنوان المقال وأنا أفكر بمستشفى حقيقي أعرفه على أرض الواقع يدخله أو ينزل فيه نزلاؤه وزواره فيمرض من يمرض منهم، أو تنتقل إليه عدوى ما، ولكنني لن أكتب عن هذا المستشفى -الآن على الأقل- بل سأتحدث عن مستشفى «خيالي» أكبر منه وأعقد منه يحوي بلداناً وجماعات، وأناساً بسطاء، وأناساً نافذين، وفئة صامتة، وفئة صارخة، وفئة عاقلة، وفئة مجنونة، ودواب، ومذاهب، وعقائد، وأديان، ولغات متعددة، بعدد غرف وأجنحة هذا المستشفى، الذي سأسميه بمستشفى العلاجات الرشيدة والبيطرة اليسيرة، وكاختصار سأسميه بالمستشفى «العربي».

(2)
يشجع المستشفى العربي مرضى القيم وأصحاب العلل النفسية والدينية والملحدين والحائرين بين الثقافات واللغات والباحثين عن غياهب الأمور واللاهوت والعلوم الإنسانية والطبيعية على زيارة المستشفى للحصول على الاستشارة أو العلاج الصحيح دائماً والمعد مقدماً، فشعار «العربي»: «في كل شخص منكم علة، وعلاجها وتخليصك منها علينا! أطباؤنا علماء أجلاء، وغيرهم من أنظارهم في كل مكان جاهلون!». يرى الكثير في شعارات «العربي» أملاً سيخلصه من وجع حل به أو مصيبة وقعت عليه، ويرى البعض في دعايات المستشفى تضليلاً عن الطريق السليم وأوهاماً لحياة يكون التلقين أساسها والولاء الأعمى عمادها. تنجح الدعاية فيلتحق الكثير بالمستشفى لمداواة عللهم أو التعلل بمداواتها، وينأى البعض عنه مفضلين أن يعالجوا أسئلتهم واستفساراتهم وحدهم، أو أخذ الاستشارات من مكان آخر.

 (3)
تشعر وأنت تقرأ عن «العربي» بأنه مجمع لكل قيم ومبادئ وأساسيات وأخلاق العلوم الطبيعية والإنسانية، ومع ذلك فأنت تشاهد من بعيد خروج مختلف الأصناف والفئات منه، العاقل والمجنون والإرهابي والمحسن والعاق والمكثر والمقل والخيّر والشرير والسيء والجيد والحمار والذئب والكاذب والمتحول والسارق والعاف والفاجر والمنافق والمؤمن والملحد والأشقر والعنصري والمقاوم والمتعلم والأمي والرجعي والتقدمي والحمص والكنافة الذي يحطم «العربي» رقمه بهما في «غينيس» كل سنة بصحن أكبر!

 (4)
أين الخلل في الأمر؟ هل هو في سوء نية أو حسن نية «العربي»؟ أم في الفجوة الواقعة بين الغايات التي تهدف إلى القيم والأخلاق والعلم، والتطبيق العملي على أرض الواقع؟ أم أن المشكلة في من يسمح بالتحكم عن بعد «بالعربي» وأفراده كقطع شطرنج؟ أم أن الموضوع أسهل من ذلك، ويمكن اختصاره في كلمة نفاق المدخلات على حساب المخرجات؟.
 -لا يُسعفني المنطق بأي جواب.
-هل هو مستشفى مجانين؟ ومن هم مجانينه الإدارة أم النزلاء؟
-لا أعرف.. كل ما جرني إليه خيالي هو أنه مستشفى يُمرض نزلاءه!

جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية

الخميس، 17 يوليو 2014

انسان في بعض الأحيان

من الثابت أن الحيوانات لا تصطاد إلا في حال الجوع، ولا تعتدي أو تدافع عن نفسها إلا عند شعورها بخطر حال ومؤكد قريب منها. هذه هي سنة الحيوانات والحشرات ، أما حال الإنسان فهو أبعد ما يكون عن ذلك، فمنذ بداية التاريخ وصولاً إلى العصر الحديث والحربان العالميتان الأولى والثانية، حارب الإنسانُ الإنسانَ لكل الأسباب الخاطئة ما عدا الصحيح منها، كقاعدة قلت وتفرقت استثناءاتها على مر السنين.
قاتل الإنسانُ الإنسانَ من أجل المال والقوة والسلطة والمرأة والانتقام والتطهير العرقي والديني والطائفي، وفي حالات قليلة قاتل لكي يدفع عدواناً وقع على بلده، أو ليدفع ظلماً حل بغيره.
تنوعت أشكال الحروب الظالمة، وتعددت العمليات الإرهابية حتى اختلط الحابل بالنابل، لم يعد الناس يعرفون من الظالم ومن المنقذ، من على حق، ومن على خطأ، ولكن كانت الأكثرية تدين هذه الحروب والإرهاب والعدوان الحاصل في كل بقاع الأرض، لكثرة ما أحدثت من دمار، ونشرت من فقر، وفككت من أسر، أما الآن فقد بانت فئة ليست بالأكثرية، ولكنها ليست بالأقلية أيضاً، ظهرت عندما قرر صدام حسين غزو الكويت، مدعية بأن «حامي العرب» يعرف مصلحة العرب أكثر من غيره. ماذا عن مصلحة أولئك ممن أسروا ودُمرت بيوتهم وقُتل أحبابهم؟
ظهرت تلك الفئة بوجوه مختلفة متشمتة وقت احتلال العراق في 2003، جذلة بسقوط صدام، غير واعية بأن شعباً كاملاً تتم معاقبته في نفس الوقت.
ظهرت هذه الفئة في سوريا، فساندت تارة ديكتاتوراً خوفاً على نفسهم كأقلية، وساندت تارة إرهابيين طائفيين بحجة الانتقام من الطائفة الأخرى.
كُشفت هذه الفئة عندما طالبت في بعض البلدان باعتقال وحبس جماعة كاملة، لأنها تحمل عقيدة وفكراً مختلفاً عنهم.
ونرى هذه الفئة بوضوح في فلسطين المحتلة بمستوطنيها الذين يدعون استعدادهم للسفر إلى أقاصي العالم لمساعدة أي إنسان، في نفس الوقت الذي يمطرون فيه صواريخهم على غزة.
الإنسان يختار معاركه كما يقولون، وكما يفعل ذلك، يدير ظهره إلى ما يزعجه أو لا يهتم به من آثار لاختياراته، ولا مانع من ذلك ما دام لا يضار منها سواه، أما الرضا أو حتى السكوت عن القتل والنهب واعتقال الحقوق والحريات بشكل مطلق أو في حالات دون غيرها، فهو ما لا ينبغي السكوت عنه. يجب على الإنسان أن يكون إنساناً في كل وقت، وفي كل ظرف، وفي كل مكان، فقناعة هذا الشعور وهذه الفطرة لا تتحول إلا عند المنافقين الغليظين فظي القلب أشباه الفئة التي أتحدث عنها، والتي تتعاطف مع من يشبهها وتتكالب على من يختلف معها أو عنها.
هذه الفئة تشبه الكلاب البوليسية في صفاتها، تنقض على من يختلف عنها، وتدنو ممن يشبهها ويدعوها إليه أصحاب الكلب، وسبب تشبيهي لهذه الفئة بحيوان كالكلب، رغم إشارتي في بداية مقالي إلى تمسك الحيوانات بفطرتها وما جُبلت عليه في كل حين ومكان، هو أن الكلاب البوليسية مختلفة عن بقية الحيوانات، فهي تُدرب وتُلقن وتُعلم على مخالفة فطرتها، بحسب أهواء صاحبها، الذي يختار معاركها وما يرضيه منها، وهذه الفئة لا تختلف عن الكلاب البوليسية كثيراً، الفارق الوحيد هو أن الفرد التابع لها يختار أن يكون إنساناً في بعض الأحيان.

جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية

الاثنين، 14 يوليو 2014

إلى أصدقاء الرحلة

لك أن تتخيل الدنيا بلا كل شيء وأي شيء إلا صديقاً صدوقاً صادق الوعد منصفاً، كما صاغها الإمام الشافعي -رحمه الله- وكما سلم بعدها على الدنيا سلام يأس وتوديع في حال خلوها من هذا الصديق.
هذا الصديق قد يكون ذاك الصاحب الذي تجده دائماً يشاطرك وتشاطره أسرارك فيطمئن قلبه ويريحك، أو تلك النبتة التي ترعاها في الصباح لتصبح عليك كل يوم من عند نافذتك، أو تلك الهرة التي ساقها جوعها إلى بابك، فلم تتركك بعد ذلك، ولم تتركها.
أياً كان ذاك الصاحب، وكيفما كان، صديق الطفولة، صديق الدراسة، صديق العمر، هو من يبقى في الذاكرة، وتظل بصمته الحاضرة.
فصديق الطفولة هو ابن العم البعيد والقريب، وابن الجار وصديق الحارة بكل مغامراتها ومشاكلها وأحاديثها العابرة بكلماتها الكبيرة والصعبة.
وصديق الدراسة هو من جمعه المكان وقربته الاهتمامات، وهو في الغالب من كان صديق الطفولة، ومن سيكون صديق العمر.
أما صديق العمر، فهو ذاك الذي تغضب عليه ولكن لا تقسو، تنشغل عنه ولكن لا تنسى، هو ذاك الذي مهما بعدت عنه، ترجع لتحادثه وكأنك ملاقيه بالأمس.
وهناك الكثير غيرهم من أصدقاء عمل.. أصدقاء خير.. أصدقاء سفر.. أصدقاء خياليين.. أصدقاء افتراضيين، وأصدقاء عابرين لم يتقابلوا إلا مرة أو بضع مرات، على أن يتواصلوا أو يتقابلوا بعدها، فلم يفعلوا.
وهناك الأصدقاء الذين نعتقدهم كذلك حتى نعلم عن رحيلهم أو فقدانهم، وما أكثرهم في حقل السياسة، فهم أصدقاء حتى يصبحوا أعداء، وأعداء حتى يصبحوا أصدقاء، علاقاتهم تتغير كما تُغير الأفعى جلدها، وهم جميعاً أصدقاء مصالح، وأعداء مصالح.
وما يجعل الأصدقاء عنصراً من عناصر الحياة كالماء والهواء، هو القدرة على مشاركة الحياة بكل ما فيها من أمور وأشياء وآراء واهتمامات معهم، ففي ذلك استعمال لأبرز وأقدم مكتسبات الإنسان: القدرة على التعبير، والمشاركة إما تصبح سبباً للسعادة، حيث إن السعادة لا تكون إلا إذا تمت مشاركتها، أو تمسي سبباً لتخفيف الهموم والأحزان، وفي كلتا الحالتين لا تكون المشاركة ولا السعادة إلا بجانب صديق اعتبرته أخاً، وأخاً رأيته صديقاً.

جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية

الخميس، 3 يوليو 2014

أنت اخترت

(1)
بحر من الوجوه في كل مكان حتى في الخلاء، أرواحهم ضائعة، حاضرة، كارهة، جاحدة، محبة، مؤمنة، تائهة، متربصة، محبطة، عاقة، واصلة، مقتنعة، بخيلة، كريمة، خالدة، راضية، تمشي في السباق، وتركض في الأروقة.. لا شيء ينقذ هذه الأرواح الهائمة والوجوه المبحرة سوى فكرة، لحن، كلمة تجعل لكل شيء معنى، ولكل معنى شيئاً.. تحافظ هذه الأفكار والألحان والكلمات على الحياة التي نتمناها لأنفسنا في أنفسنا، أو تحبب لنا البقاء كما نحن كنا وسنكون، نسعى وراء الوظائف التي تُلقى في أحضاننا، نأكل من الصحون التي تُوضع أمامنا، ونشرب من الكؤوس المعلقة على رؤوسنا، لنقول إن هذا كله من اختيار الحياة.. بين هذه البحور والوجوه والأرواح، قف وتذكر قليلاً، من اختار.
(2)
تعرف أنك قررت أن خياراتك هذه أو تلك من اختيار الحياة، عندما تسمع نفسك في ثنايا كلامك تقول: «هذا ما قُدر لي!» أو «لقد أخذتني الحياة إلى طريق خاطئ!». نلوم الحياة ونضع ثقلنا على ثقلها دون أن نمس أنفسنا ولا من وما حولنا. نعم للحياة يد في خلق الفرص والنعم والنقم ولكنها يد واحدة، ولهذا لا تصفق -أي لا تفعل كل شيء-، فهي تحتاج إلى أيدينا لتكتمل حركة المسرح، والجزء الأكبر من هذه الحركة يقع على الممثلين لا الأثاث والأضواء.
(3)
كم هي عدد المدن الصغيرة التي لم ولن نسمع بها؟ كم من شخص يعيش وعاش فيها ولم ولن نسمع به؟ كم منهم يعمل في وظائف عادية في مطاعم ومغاسل ومحلات عادية لم ولن نسمع بها؟ كم شخص منهم اختار مدينته وظيفته ومدرسته وحياته؟
لو كنت مكان أحد منهم، هل كنت لتسأل نفسك من اختار؟

جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية

الحقيقة الفلسطينية

        الشمس لا تُغطى بغربال، و الحقيقة كذلك. طوال العقود الماضية، كانت حقيقة ما يجري في فلسطين، و الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُملى على م...