السبت، 8 ديسمبر 2018

نحو الشغف





في الأسابيع الماضية، تغير شكل واشنطن. تمت إعادة انتخاب مجلس النواب الأمريكي بأكمله مع ثلث مجلس الشيوخ. و كانت الصورة مبهرة.
حصلت أكثر من مائة امرأة على كرسي في السلطة التشريعية، و تنوع تمثيل جمع الناخبين من ناحية الدين و العرق و الجنس. هذا الإنجاز لم يحصل بين يوم و ليلة، بل كان ردة فعل على وصول ترامب إلى البيت الأبيض و تجاوزاته التي لا تعد و لا تحصى. حيث جعل العديد من الفنانين و الإعلاميين و المؤثرين، عنوان رسالتهم في أكتوبر و نوفمبر هي التصويت لإحداث فرق! بل أن البعض منهم مثل شيلسي هاندلر، تركت برنامجها كي تحث النساء على الترشح و التصويت في المناصب المختلفة على مستوى ولاياتهم و على مستوى الدولة. هذا الشغف جعل الكثير ممن يعتبرون أصواتهم بلا فائدة، يتجهون إلى مراكز الإقتراع للتصويت. هذا الشغف غير حالة اللامبالاة التي عاشها الكثير إلى حالة اهتمام و متابعة لما يحصل.
و رأيي بأن معظمنا إن لم يكن جميعنا، نعيش في حالاة لا مبالاة أو تبلد نحو شيء ما في حياتنا لأننا اعتدنا وجوده أو سلمنا بوجوده. أصبحنا نبخس قيمة الكثير من الأشياء، فلا نقدر قيمتها الحقيقية إلا بعد فوات الآوان في أكثر الأحوال. فقدنا الشغف و الاهتمام و الانبهار. أصبحنا نحتاج صفعة على الوجه كي نستيقظ و نقرر بأننا نريد أن نفعل شيئاً ما لنغير الوضع. هذا ما حصل بإختصار في الإنتخابات الأمريكية النصفية الأخيرة. و هذا ما يجب أن يحصل في كل مكان و كل مجال لننهض في العالم العربي. و الحقيقة بأننا بدأنا نرى شيئاً من ذلك بعد ما حدث مع جمال خاشقجي رحمه الله. انتعشت مرة أخرى المطالبات بإعلام حر و تقبل الآخر و حماية للصحفيين و المدنيين و حقوق الإنسان في الدول العربية. و لكن ذلك لا يكفي. يجب على الشغف ألا يموت. و الشغف لا يموت و لا يستسلم. الانبهار لا يُولد عليلاً أو معلقاً على شرط أو سبب. و لكننا من نختار حياة شغفنا و موته. نحن من نختار ما يبهرنا و ما يرسل النعاس نحونا. و هذه قضايا يجب ألا يمسها الموت أو النعاس أو الغيبوبة. فنحن بحاجتها. نحن في حاجة إلى التغيير. الآن.


جواهر بنت محمد آل ثاني

تاريخ ٢١/١١/٢٠١٨


أنا بعيداً عن أنت




حصلت مؤخراً حادثتان مهمتان، الأولى عندما عرض الأسبوع الماضي المغني الأمريكي الشهير كانييه ويست على متابعيه رسائل بينه و بين مؤسسي تويتر و سناب شات مع مناشدته لباقي برامج التواصل الإجتماعي كإنستغرم و فيس بوك على عدم عرض أعداد المتابعين (followers) و الإعجاب (likes) إلا لصاحب الحساب. و أشار إلى أن هذه الأمور تشغل بال المراهقين و الشباب كثيراً إلى درجة أن بعضهم قد يتجه إلى الإنتحار بسبب قلة متابعيه و الإعجاب الحاصل عليه!
و الثانية بعد موت المغني ماك ميلر نتيجة جرعة مخدرات زائدة، و انهال المعجبون الشباب على حبيبته السابقة المغنية آريانا قراندي بالشتم و التحقير لأنها كانت قد تركته قبل موته لاستخدامه المخدرات. في اعتقادهم أنه لم يكن ليموت لو أنها وقفت إلى جانبه و حاولت مساعدته.
في رأيي الحادثتان تبينان لنا حجم المعضلة التي يواجهها الشباب و المراهقين في تعاملهم مع أنفسهم و غيرهم و خاصة أولئك الغريبين عنهم في فضاءات برامج التواصل الإجتماعي. هذه الأجيال الجديدة تعاني من ضياع و محاولة إثبات نفس أمام الغرباء، خاصة الغرباء “السعداء” في نظرهم. و هذا جعلهم لا يفكرون سوى بأنفسهم، بنجاحاتهم، بفشلهم، بسعادتهم، بحزنهم، بالآلامهم ، و معاناتهم و طريقهم و رحلتهم، و ما عدا ذلك إلى الجحيم. انغماسهم بأنفسهم جعلهم ينسوون الآخرين و الآلامهم و معاناتهم، فكم معجب من أولئك المعجبين، عرف فعلاً ما حدث بين جراندي و ميلر؟ من منهم يعرف إن كانت حاولت مساعدته أم لا، أو إن كان موته انتحار أو خطأ و حسب؟ لا أحد منهم يعرف. و لا أحد منهم فكر في ذلك قبل مهاجمته لجراندي. فكروا فقط بأنفسهم و حزنهم على موت فنانهم المفضل.
إذاً، فنحن أمام أجيال جديدة، همها أن تكون سعيدة أكثر من غيرها حتى “ترضى”، و لن ترضى. و بسبب ذلك أصبحت هذه الأجيال قاسية جافة تولي أنفسها كل الاهتمام دون غيرها. لا تفكر إلا بنفسها، و لا ترغب تحقيق سوى نفسها. مفاهيم المساعدة و التكافل و التعاون قد تبدو غريبة عليهم، كيف يفهمونها و هم لا يستطيعون فهمها؟ هناك أمور أولى في نظرهم مثل الاهتمام بصورتهم الشخصية في برامج التواصل الإجتماعي، و زيادة قواعد معارفهم.
أقول للأجيال الجديدة: التواضع ثم التواضع ثم التواضع. اعرفوا مكانكم و مستوياتكم. ارضوا بما أنتم فيه و عليه الآن، و اعملوا على تغييره إن لم يعجبكم. لكل انسان سرعته في حياته. لا أحد ينافس الثاني في سباق الحياة، لأنه لا يوجد سباق واحد. لكل انسان سباقه الخاص، ينهي تعليمه الجامعي أو لا ينهيه، يتزوج قبل صديقه أو لا يتزوج، ينال وظيفة أحلامه أو لا ينالها أو ينالها متأخراً. لكل عمل و مرحلة من حياتكم، وقت، لن تتأخروا عنها و لا تسبقوا أنفسكم إليها، فلا تستعجلوا شيئاً، و استمتعوا بالرحلة!






جواهر بنت محمد آل ثاني
تاريخ ٣/١٠/٢٠١٨

لا هستيريا و لا دراما

عندما تتحمس المرأة في المباراة، تكون هستيرية ويجب معاقبتها، وعندما يقوم الرجل بالشيء نفسه، يكون فصيحاً ومقداماً ولا تلحقه العواقب، هذا ما قالته لاعبة التنس الشهيرة السابقة بيلي جين كينج بعد خسارة سيرينا ويليامز في بطولة أميركا المفتوحة للتنس.
ما حدث هذا الأسبوع في البطولة الأميركية المفتوحة للتنس كان مفاجئاً، وإن لم يكن صادماً، خسرت البطلة الأميركية سيرينا ويليامز أمام اليابانية نايومي أوساكا، بعدما أعطى الحكم تحذيراً لويليامز بداعي قيام مدربها بتوجيهها في المباراة -وهو أمر مخالف للوائح التنس- هذا الأمر استفزّ ويليامز التي ردت عليه بأنها تُفضّل الخسارة على الغش، كسرت ويليامز مضربها على أثر اتهام الحكم لها، مما جعله يخصم منها نقطة، فاتهمته «بسرقة هذه النقطة منها»، فعاقبها بخسارة شوط كامل.
لن أكتب عما فعلته ويليامز في البطولة، ولكن سأتحدث عما يحصل في هذه البطولة وغيرها من البطولات، الواقع أن ما حصل يحصل دائماً في بطولات الرجال في ألعاب التنس وغيرها، وأخص بالذكر لاعب التنس الشهير السابق الأميركي جون مكنرو، ولكن لم يتم التعامل معه أبداً من قبل الحكم كما حدث مع ويليامز.
لدينا في كرة السلة وكرة القدم كثير من الأمثلة على مهاجمة -لا انتقاد- اللاعبين الرجال للحكام، ونادراً ما تتم معاقبتهم أو التصرف معهم على أنهم «هستيريون»، ويجب عليهم أن يهدأوا!
كثر الحديث عن تغيير قواعد التنس من ناحية السماح للمدربين بالتوجيه بسبب ما حدث، ولكن الأولى أن يكون الحديث حول طريقة معاملة المرأة في اللعبة، لأنها صورة مصغّرة عن طريقة معاملتها في المجتمع.
ما حدث مع سيرينا حدث مع لاعبة فرنسية قبلها اسمها اليس كورني، التي استوعبت خلال استراحة في المباراة أنها لبست قميصها بالمقلوب، فقلبته ولبسته مرة أخرى مما جعل الحكم يعطيها تحذيراً، رغم أنها كانت تلبس تحته ما يغطي جسدها، هذا الأمر يفعله لاعبو التنس الرجال دائماً في البطولات عندما يكون الجو حاراً، ولم يحدث أن أخذ أحدهم تحذيراً على ذلك.
بالنسبة لي، كان ما فعلته سيرينا ويليامز رائعاً، ولا أقصد كسرها لمضربها أو ما قالته بالتحديد، ولكن أقصد تعبيرها عن نفسها، وعدم خوفها من ذلك، برأيي، على كل امرأة أن تفعل ذلك، أن تعبّر بصراحة عندما ترى خطأ يجب تصحيحه، أو تكشف ظلماً وقع عليها، على كل امرأة أن تغضب عندما يحدث ظلم أمامها، وعندما لا تتم مساواتها بالرجل على الفعل نفسه، على كل امرأة أن تثور، لا لنفسها فقط، بل لغيرها أيضاً من نساء كثر لم تسنح لهن الفرصة للتعبير عما في داخلهن.
أقولها كما قالتها الكاتبة سيليا والدن، كان «غضب سيرينا رائعاً»، لأنها لم تسمح لأحد أن يعاملها بطريقة مختلفة، كان رائعاً لأنها عبّرت عما في داخلها، وعن حقيقة كثيرات غيرها من النساء، ويؤسفني كثيراً الطريقة التي تلقى فيها الإعلام العربي ما حدث، بخلاف الإعلام الأميركي، فعلاً أمامنا طريق طويل في إحداث فرق في الفكر والعدل والمساواة.


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
تاريخ ١٣/٩/٢٠١٨



المرأة و "حاجاتها"

المرأة سكرتيرة أو ربّة منزل، لا يُسمع رأيها ولا يؤخذ به.. هذا هو واقع الستينات في الولايات المتحدة الأميركية الذي صوّره المسلسل الشهير «Mad Men». يحكي المسلسل قصة مجموعة من الرجال العاملين في مجال الإعلانات مع «نسائهم».
باختصار، الرجل أبيض البشرة هو الشمس في المسلسل، وجميع ما عداه يدور حوله في مساره المحدد مسبقاً.
يُحسب لمعدّي المسلسل مصداقيتهم في نقل حقيقة حقبة بأكملها، ووقت لا نزال نرى آثاره حتى في أيامنا هذه. لا يزال عدم المساواة بين الرجل والمرأة عائقاً ملموساً، وإن كثرت الأصوات المنادية بالمساواة، فنحن نشهد الكثير من الأصوات بل والأفعال المعارضة للمساواة.
هذه الأصوات المعارضة تريد الإبقاء على الوضع الراهن، لا تسعى إلى تطور المرأة ولا إلى مساواتها بالرجل.. يريدونها ربّة منزل وحسب، وإن أرادت هي أكثر من ذلك! يريدونها سكرتيرة في جميع نواحي حياتها، كي يُملون عليها ما يريدون.. يريدونها ضعيفة مهمشة بلا قرار أو صوت، وإن كان ذلك أمام أولادها.
لن أتطرق إلى كون عدم مساواة المرأة بالرجل منافٍ للدين أو القانون، فقد قلت الكثير في ذلك، ولكنني أرجع لأقول بأنه منافٍ للعقل والمنطق.
يأتمن الرجل المرأة على بيته وأولاده، أي أكثر شيء قد يقترب من كونه معجزة إلهية على الأرض، ثم يقول إنها ناقصة دين وعقل و»حُرمة في الأخير»!
المرأة أمه وزوجته وأخته وعمته وخالته وابنته وابنة إخوانه، ولكنها لا يجوز أن تكون أمه التي تترك غطاء الوجه، أو زوجته التي تخرج كثيراً، أو عمته التي تقود سيارة، أو خالته ذات المنصب الرفيع التي تُدرج الصحف اليومية صورها، أو ابنته التي تسافر للدراسة في الخارج، أو ابنة إخوانه التي تعمل مع الرجال، أو أخته التي تتزوج أجنبياً. يصيح هؤلاء -منهم رجال ونساء- بأن المرأة «ما لها حاجة» في مساواة حقوقها بحقوق الرجال. أيعني ذلك بأن هذه الأصوات ستُسحق لو وُجدت امرأة «في حاجة» لهذه الحقوق لعدم وجود رجل في حياتها ليُنهي أمورها وأمور أولادها مثلاً؟ لا، فأزمتهم عبارة عن نقص فكري، ومعتقداتهم كانت -ولا تزال- نتاج حراك مجتمعي يفخّم دور الرجل ويشدّد على أهمية الذكورية كمعيار للتقدم والاستقامة.
تُحلّ عقدة اللامساواة بمعرفة وفهم والتصديق بأن المرأة لا تختلف عن الرجل، لا عندما يكونان في سن السابعة أو في سن الثامنة عشر أو العشرين أو الثلاثين أو المائة.. لن يختلفا سوى في البنية الجسدية، وربما العقلية الفكرية التي قد ترجّح للمرأة أو الرجل، وما عدا ذلك هراء تناوله الناس عبر السنين.


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
تاريخ ٢٤/٨/٢٠١٨


تجعل كل شيء أفضل

تخيل نفسك في حفلة سيئة الترتيب، ضيوف كئيبون، طعام سيء، كراسي غير مريحة، صالة غير مكيفة، إضاءة ساطعة، وفي هذا الجو الباعث على الانتحار، بدأت موسيقاك المفضلة بالتسلل إلى الغرفة.
وقتها ستُرسم ابتسامة على وجهك، شئت أم أبيت.
الموسيقى تجعل كل شيء أفضل. المحادثة المملة بين شخصين تكون محتملة أكثر بوجود موسيقى جيدة في الخلفية. ولربما لهذا السبب، كثيراً ما نحتمل أفلاماً ومسلسلات سيئة بسبب موسيقى تصويرية رائعة.
الموسيقى تعطي الأفكار طعماً، والأفلام حياة، وتفتح المجالات المتكاثرة أمام خيال الإنسان.
لدينا التسجيلات الموسيقية، والعروض الحية، والحفلات، والأفلام، والمسرحيات الموسيقية، وكلها نشوة للروح.
والأمر المثير حول الموسيقى أنها قد تعمل كوسيلة شحن طاقة، أو تفريغ طاقة، عن طريق الرقص، أو حتى الاستماع وحسب.
أصدق من يقول إن الموسيقى دواء للروح، ولكن لا يكفي الاستماع إلى موسيقاك المفضلة المألوفة. العالم مليء بالموسيقى. وسع مداركك. استمع لما يستمع إليه الآخرون. خاطر قليلاً بذائقتك الموسيقية. عرضها إلى الخوف والخطر والصدمات. 
وإن كنت لا تحب الاستماع سوى للموسيقى المصحوبة بالشعر، اخرج عن طريقك المعتاد. استمع إلى مقطوعات شوبان وفيفالدي، وغير لباس روحك لدقائق معدودة. انغمس في شيء أكبر منك. ابحث عن شيء ضاع منك أو تقت إليه. كلها أشياء تعثر عليها عبر الموسيقى.
لا أستمع إلى الموسيقى كثيراً عندما أكتب، ولكني أفعل ذلك عندما أفكر أو أريد التفكير حول أمر ما. عندها تعمل الموسيقى كمحفز جمالي، لكل معضلة، وكل حالة، وكل أمر لم أعطه حقه.
أصحب الموسيقى معي في أسفاري وعملي ودراستي ورحلاتي، ولم تخيب ظني يوماً. كيف لها أن تخيب الظن، وهي من لها ذاكرة كاملة وحدها. تحفظ مكاناً ما في زمن ما في أغنية لا تتعدى خمسة دقائق.. تخلق لها عمراً في الروح.

جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
تاريخ ٩/٨/٢٠١٨



لا تقاوم

(ل)
عن التنفس عميقاً، عن الاستلقاء الأخير بعد الدوران طويلاً، عن أول لحظة بعد العثور على التوأم الروحي، عن ثواني الوفاء آخر العمر، عن الجلوس على كرسي الطائرة وسط غيوم الخوف، عن إعطاء ابتسامة طال انتظارها، عن تقبل الحزن، وتقبل الفرح، وتقبل الحب، وتقبل الغضب، وتقبل الانتظار، والسعادة، والخوف، والحيرة.
عن الوقوع في حضن اللحظة الحالية دون تأوه أو صراخ.. عن الاستسلام.

(ا)
نجاهد كل يوم حتى لا نستسلم. نعمل ونتعب حتى لا يقول أحدهم عنا بأننا استسلمنا أو سلمنا أمرنا للغير. وفي أكثر الحالات، يكون الاستسلام هو الطريق الوحيد للنجاة في هذه الحياة.

(ت)
أقصد بالاستسلام، عدم مقاومة الحياة. أخذ فعل كل لحظة كما تجيء دون شغل التفكير بالماضي أو المستقبل. متابعة الحاضر، وحسب. إعطاء كل ثانية حقها دون اللهث لما ورائها أو الركض إلى ما يتبعها. كل ما نعيشه حقاً هو اللحظة الراهنة.. وما غيرها، هو نتاج تفكيرنا وخيالنا. وهذا يجعل كل ما نفكر به كماضٍ ومستقبل، بلا فائدة حقيقية إن أعدمنا استثمارنا في الحاضر.

(ق)
لماذا الحاضر وحسب؟ لأننا نتذكر الماضي كما صنعناه نحن، لا كما حصل، ولأننا نبني المستقبل كما نراه، بعين واحدة أو بعينين على الأكثر، بينما قد توجد في الكون آلاف الاحتمالات التي قد لا ندرك ربعها.

(ا)
ما العيب في الماضي والمستقبل؟ لا عيب ولا علة ولا خطأ. الخطأ في استرسالنا بالتفكير بالماضي، وشغله حياتنا وأفكارنا دون تعلمنا منه والمضي قدماً.
لا عيب في التخطيط للمستقبل، الخطأ في أخذه مساحة منا في كل خطوة نخطيها، وإن لم تكن لها علاقة بالمستقبل الذي خططنا له! بناء المستقبل من المفترض أن يكون طريقاً نرسمه، ثم نتركه لنمشيه في اللحظة الحالية، لا لنفكر به في كل لحظة من حياتنا! وإن كنا سنفعل ذلك، هل يكون عندها طريق، أم سجن، خلقناه بأفكارنا؟ 

(و)
قرأت أكثر عن كيفية الاستفادة من اللحظة الراهنة، والعيش بهدوء في كتاب ايكهارت تولي "قوة الحاضر" (The Power Of Now)، وقد أخذ بعض التعاليم في كتابه من البوذية والمسيحية. ووجدت أن الاسلام لا يختلف عن هذه التعاليم في الدعوة إلى ملازمة الحاضر، وعدم ترك الأمور لماضٍ كان أو مستقبل سيكون (إن شاء الله). أولم ترتبط قراءة القرآن الكريم بالتدبر والفهم العميق؟ ألا يكون ذلك من أقصى صور الاستسلام للحظة الراهنة، والعيش في فعل يطرد التفكير في أي شيء آخر؟

(م)
استسلموا. لا تقاوموا حاضركم بإزعاج أنفسكم بماضٍ ولده تفكيركم أو مستقبل قد لا تدركونه. كونوا مؤمنين كمن قال: "أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد". فالله هو الوحيد الذي يعرف ماضيكم الحقيقي ومستقبلكم الآتي.



جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
بتاريخ ٢٦/٧/٢٠١٨


الأحد، 22 يوليو 2018

أن تكون وحيداً

(الجزء الأول)
الوحدة هي أن تنظر حولك، ولا ترى قلباً يفهمك.
الخيبة هي ألا تجد من يسعفك.
اليأس يتسلل بين شروخ الوحدة والخيبة، ويُولّد مادة لزجة كثيفة تُسمى الحزن.
الحزن يكبر مع الأيام، حتى يصبح محيطاً من الكآبة.
روبن ويلياميز فهم ذلك جيداً، ولذلك قال: «كنت أظن أن أسوأ شيء في الحياة هو أن تكون وحيداً لكن أسوأ شيء في الحياة هو أن ينتهي بك الأمر مع أشخاص تشعر معهم بالوحدة».

(الجزء الثاني)
في فيلم «Wanderland»، يعيش أليكس في المدينة الكبيرة، حيث لا أحد يرفع رأسه عن الموبايل أو الكمبيوتر أو أي لوح إلكتروني. لا أحد يحاول بناء جسر إنساني للآخر.
يذهب أليكس في رحلة بعيداً عن المدينة. وبقرب الشاطئ تحدث مع امرأة لمدة لا تزيد عن خمس دقائق. كانت بالنسبة له أطول اتصال إنساني منذ شهور. حتى محادثته هذه، هرب منها ليبحث عن شاحن هواتف، يسعف به بطارية هاتفه المغلق.
أنا أليكس، وأنت عزيزي القارئ أليكس آخر. من منا لا يجلس في بيته مع عائلته وعائلته الأخرى من الهواتف؟ من منا لا يخرج لمطعم أو مقهى ما مع أصدقائه، لينتهي بهم المطاف كمجموعة رؤوس مصوبة على الهواتف في الطاولة؟
أصبح شاحن الهاتف أهم إكسسوار في هذه الحياة، والاتصال الرقمي هو ما نفضله على أي اتصال واقعي جسدي.

(الجزء الثالث)
شاهدت مؤخراً تجربة على الإنترنت، حيث صوّر جوزيف لندو تجربته في الوحدة لمدة أسبوع. طوال هذه المدة لم يخرج من شقته، ولم يستعمل الإنترنت، حيث كان هدفه من هذه التجربة نشر التوعية حول الكثير من المسنين الوحيدين في بريطانيا، الذين تمر عليهم أيام طويلة دون أن يتحدثوا فيها مع أحد.
في بداية تجربته، كانت الأمور تسري على ما يرام. نام طويلاً وشاهد التلفاز وبدأ في حل الأحجيات، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً. بعد اليوم الثالث دخل في مراحل الإحباط والملل. وأصبحت الأشياء التي تبعد تفكيره عن بقائه وحيداً، متعبة.
يقول عن تجربته هذه: «الوحدة تجردك من الثقة بالنفس، وإن كنت وحيداً فذلك سيجعلك أكثر عرضة للأمراض العقلية، كما أنه سيكون من الصعب عليك أن تجد نفسك بين الناس مرة أخرى».

(الجزء الأخير)
يجب أن نتذكر في النهاية أن الإنسان اخترع كل أنواع وطرق ووسائل التواصل، كي يتواصل مع نظيره الإنسان، وأن مسألة أن تكون وحيداً ليست بخطورة أن تشعر بأنك وحيد.


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية

الاثنين، 16 يوليو 2018

كل شيء لن يكون على ما يرام

ستأتي أيام شاحبة، بلا ألوان، وأيام بلا طعم، وأيام بأنفاس سلبية، كشريط أخبار لا يتوقف. وذلك أمر لا مفر.
وستحل أيام مشمسة وطازجة، مليئة بالضحكات والبالونات، وأيام مصحوبة بأكواب الأصدقاء وأغاني الجدات المريحة، وأيام تسند بها رأسك إلى كتف من تحب دون أن تسمع أصوات القلق أو الخوف أو الإجهاد أو الغضب. وهذه الأيام نادرة، ولا تحدث لحظاتها للجميع، فالبعض يقتلها بالتفكير وبدونه.
أوقاتنا السيئة مثل أوقاتنا الجيدة. هي ملكنا. نحن من يتحكم بها. إن أردنا أن يصبح كل شيء على ما يرام، فذلك بيدنا وحدنا لا بيد الوقت ومن حولنا. طريقة نظرنا إلى ما يحصل لنا هو ما يحدد مصيرنا ومصير سعادتنا. وأكبر دليل على ذلك، عندما يحصل شيء سيء لنا، يتبعه شيء جيد. عندها لن يكون كل شيء على ما يرام، إن كنا لا نزال نفكر ونقيم الأمر السيء. ولن يعني الأمر الجيد أي شيء لنا.
سيكون كل شيء على ما يرام، عندما نتقبل كل ما يحصل لنا في حياتنا، ولا أعني هنا أن نخضع لأحداث حياتنا، بل أن نخضعها لنا عن طريق تقبلها، ومن ثم التعامل معها كما ينبغي. إن كان حدثاً جيداً، نقبله ونستحقه ونحمد الرب عليه، وإن كان سيئاً أو مؤلماً، نقبله ونستسلم لمشاعرنا الوقتية، لنخرج بعدها بحلول تساعدنا على المضي قدماً، دون جعل هذا الحدث محور حاضرنا أو مستقبلنا.
كل شيء سيكون على ما يرام، عندما نستيقظ من غفلة التفكير الدائم، الذي يمنعنا عن النوم أحياناً. عندما لا نغرق في دوامة التيه العميقة. عندما لا نسلم الراية لعقلنا طوال اليوم. ونمنح مشاعرنا فرصة التعبير عن أنفسنا لأنفسنا في أوقاتنا السيئة قبل الجيدة.
كل شيء سيكون على ما يرام، عندما نؤمن ونتقبل أن كل شيء لن يكون على ما يرام طوال الوقت أو حتى في النهاية.


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية



جيل التكنولوجيا

(١)
التكنولوجيا امتصت بطريقة أو أخرى الجيل الجديد، ابتداءً بالأطفال الذين لم يعد اهتمامهم ينصب سوى على الألعاب الإلكترونية، أو مشاهدة التلفاز، أو اليوتيوب. هذا هو الواقع الذي أكدته شركة الألعاب الشهيرة «Toys R Us» التي أغلقت هذا الشهر جميع فروعها في الولايات المتحدة الأميركية، كي تضع حداً لخساراتها المتتالية التي أدت إلى وقوعها في ديون تبلغ أكثر من 5 بلايين دولار أميركي. والوضع لا يختلف كثيراً بالنسبة لمواليد 2000 ومن قبلهم المسمين بجيل الألفية، أو جيل «الواي فاي». هذه الأجيال تعامل معلومات الويكيبيديا أمراً مسلماً به، تقارع من يحاججهم بها. وهذا الانغماس في التكنولوجيا يترك أثره على المعلم خاصة، الذي يشعر بأن دوره تم تقليصه إلى حد كبير نتيجة وسائل إلكترونية وذكية، قد يقدرها طلابه أكثر منه.

(٢)
في الماضي، كانت أسوأ كوابيس المعلم الطالب المشاغب. اليوم، أسوأ كابوس يمر على المعلم هو الطالب المشاغب الملوّح بهاتفه الذكي في الفصل.

(٣)
التكنولوجيا -مع حفظ مزاياها ومآثرها- تشتت الطالب. ومع وجود المعلومات الهائلة على الإنترنت حول أصغر وأكبر الأمور، من كيفية تبديل إطار سيارة، وحتى معرفة اسم ثاني شخص مشى على سطح القمر، قد يعتقد الطالب بأنه في غنى عن المعلم ودروسه. وفي رأيي هذا ما يكبر دور المعلم لا ما يصغره، فالطالب في حاجة إلى من يرشده في زحام المعلومات وصراخ نقاشات الإنترنت التي غالباً لا يسمع فيها الأشخاص بعضهم البعض. الطلبة لا يزالون في حاجة إلى المعلم، لا الدروس الإلكترونية في الدورات السريعة Crash Courses التي قد يبقى منها في الذاكرة ما قلّ ودلّ، ويُمحى منها ما كثر في المعنى والكم. ما زلنا في حاجة إلى المعلمين الذين نقدر على مناقشتهم والتفاعل مع ردة فعلهم، المعلمين القادرين على تصويب أخطائنا، والتراجع عن أخطائهم، إن وُجدت.

(٤)
التكنولوجيا لم تكن يوماً سيئة، ولكننا نحن من فهمها واستخدمها بشكل سيء، كي تخدم رؤيتنا وأهدافنا. هدفنا في الوصول السريع إلى مبتغانا، وإن كان بالخروج من المدرسة أو الجامعة، رغم قلة العلم والخبرة، فظن الكثير بأن الخبرة تعلمها الحياة، والعلم يؤخذ من التكنولوجيا وأدواتها، والحقيقة أن الشخص إن لم يمتلك إحدى الاثنين (العلم أو الخبرة) سيسقط لا محالة في اختبار الحياة. ولا يكفي الاستشهاد بستيف جوبز أو بيل غيتس، فكلاهما تركا الجامعة، وابتدآ مشوارهما بخبرة تعادل خبرات من تخرج في الجامعة قبلهما.

(٥)
الكِبر والتعجرف، هو أسوأ ما يواجهه هذا الجيل، لا الروبوتات والتكنولوجيا، كما يظن إيلون مسك.


جواهر محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية


السبت، 30 يونيو 2018

قليلاً من التروي..

ذكر دايف تروت في كتابه «واحد زائد واحد يساوي ثلاثة»، قصة تحطّم طائرة صغيرة كانت مسافرة من الكونغو إلى بلدة اسمها باندوندو، هذه الطائرة رغم حداثتها وخلوّها من العيوب، ورغم تمكّن قائد الطائرة ومساعده وخبرتهما الجيدة، ورغم حالة الطقس الممتازة؛ تحطّمت وهي تحاول الهبوط، وقُتل جميع ركابها العشرين ما عدا راكب واحد.
تم سؤال الناجي الوحيد الذي كان يتعافى في المستشفى عن الحادثة، فقصّ عليهم ما لم يكن بالحسبان.
قال إنه عندما بدأ قائد الطائرة بالهبوط، خرج من مؤخرة الطائرة تمساح صغير، كان قد هرّبه أحد ركاب الطائرة بشكل غير قانوني في حقيبته. وما إن رأت مضيفة الطيران التمساح، حتى أصابها الهلع وركضت إلى قائد الطائرة لتخبره عنه. باقي الركاب أصابهم الهلع أيضاً عندما رأوا المضيفة تركض، فركضوا وراءها إلى مقدمة الطائرة. ومن تلك النقطة، وبسبب اختلال الوزن في الطائرة لكفة المقدمة، وكون الطائرة أصلاً في وضعية هبوط، أصبحت الطائرة في وضع عمودي لا أفقي.
حاول قائد الطائرة رفعها، وحث الركاب إلى الرجوع إلى مقاعدهم، ولكن استعصي عليهم الرجوع بسبب الوضعية العمودية للطائرة؛ مما جعلها تصطدم فوراً بمقدمتها بالأرض..
نجا راكب واحد، ونجا التمساح الصغير، حتى رآه أحد السكان المحليين ثم قتله. لم يعرف بأنه أتى من الطائرة.
طرح تروت هذه القصة في معرض حديثه عن عقلية القطيع أو تفكير القطيع. ويُقصد بعقلية القطيع، الأفراد الذين يلحقون بالمجموعة فيفكرون أو يفعلون أو يقولون ما تقول به الجماعة من دون تفكير، لأسباب عديدة أهمها الخوف والجهل وعدم التفكير أو محاولة البحث عن الحقيقة. ونرى أمثلة كثيرة لعقلية القطيع في عالمنا العربي، خاصة هذه الأيام مع انتشار الأخبار والقصص الكاذبة. فترى أحدهم يصدّق ويؤمن بشيء بشكل أعمى لمجرد أن فلاناً نشر حوله «تغريدة»! وتجد آخر يدافع بشراسة عن رأي مسؤول ما حتى لا يكون «مغرداً» خارج السرب!
أحد أهم أسباب «عقلية القطيع» هو كراهية الاختلاف.. لا أحد يريد أن يكون مختلفاً عن الجماعة؛ لأن ذلك يعني -في العالم العربي خاصة- النبذ من قِبل الجماعة. ولكن هل ذلك يبرر «الجري» وراء الجماعة، وإن كان ذلك خطأ «قاتلاً»؟
حتى الجماعة تحتاج إلى تصويب في بعض الأحيان، فمن سيفعل ذلك إن كان الكل يوافقها في صوابها وخطئها؟
المطلوب من أجل التخلص من هذه العقلية، هو التروّي والبحث عن الحقيقة، وإعمال الفكر، وتقبّل الاختلاف إن حدث، فلا أحد يتمنى مصير ركاب الطائرة. الأكيد أن جميعنا نتمنى النجاة من عقلية القطيع.. ولكن ليس على طريقة التمساح.


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية


الأربعاء، 27 يونيو 2018

ماذا لو...

تدور أحداث مسلسل Sense 8 حول مجموعة رجال ونساء ينتمون إلى فصيلة أخرى من الجنس البشري. ولأنهم يرجعون إلى فصيلة تختلف عن Homo sapiens أو الإنسان العاقل، فهم يمكنهم الشعور ببعضهم البعض، من ناحية الأفكار والأحاسيس، وإن اختلفت أماكنهم ولغاتهم. وواحدة من الأفكار التي شدتني في المسلسل، هي فكرة أن ليس لأحد منهم أن يؤذي إنساناً آخر، وهو سيشعر بالألم الذي قد يحل به هذا «الآخر».
ماذا لو عشنا التجربة نفسها؟ ماذا لو كان هناك شيء لا يفرحنا أو لا يحزننا أو لا يؤلمنا، ولكننا شعرنا بهذا الشعور أو ذاك، لأن شخصاً آخر عاشه ومر به؟ ماذا لو انتقل إحساسه إلينا رغماً عن إرادتنا ورغم اختلاف شعورنا؟
لو حدث ذلك، لكان العالم، أفضل بالتأكيد، ولكننا لا نعيش في مسلسل خيالي ذي سيناريو رائع.
الواقع أننا نعيش في عالم يقدس الكينونة الفردية مع انقضاء كل يوم.. أصبح الإنسان لا يفكر إلا بنفسه ونجاحه وحياته، وضعفت العلاقات الاجتماعية رغم ظهور الإنترنت وسهولة التواصل وقلة تكلفة السفر.
ابتعد الناس عن الناس.. أصبحنا غير قادرين على التعاطف.. ما نشعر به عند مشاهدة الأخبار وأعداد القتلى حول العالم لأسباب مختلفة كالحروب والمجاعة وغيرها، هو نفسه ما نشعر به عند القيام بعزاء أحدهم لفقدانه لقريب له، حتى قمنا بتسميته «لواجب العزاء»، أي أننا مجبرين عليه، ولا نقوم به من طيب خاطر وعلى أساس المواساة والتعاطف.
ومع كل هذا، لا يزال هناك أمل في البشر.. يكمن أملنا في التواصل مع بعضنا البعض.. في حرصنا على علاقاتنا القائمة وسؤالنا عن العائلة والأصدقاء، وبناء علاقات جديدة، يُفضل أن تكون مع أشخاص مختلفين عنا في الفكر أو الدين أو اللون أو الجنس أو أي ناحية أخرى تهمنا وتؤثر فينا. هذا النوع من التواصل، قد يقرّب وجهات النظر، ولكن الأهم من ذلك، هو إمكانيته في رفع الجهل والخوف الذي قد نشعر به تجاه الناس، وخلق التعاطف كبديل عنهم.
لنحمي أنفسنا والعالم عبر التواصل ومحاولة فهمنا لبعضنا البعض، سواء أكنت أنا الآخر أم أنت. لنتعاطف أكثر، ولنسقط الجهل والخوف من الآخر!

جواهر بنت محمد بن عبدالرحمن آل ثاني
صحيفة العرب القطرية


الثلاثاء، 19 يونيو 2018

مدخل إلى الهوية اللغوية

شاهدت مؤخراً «Manhunt: Unabomber»، وهو مسلسل مبنٍ على أحداث حقيقية. وتمحورت القصة حول محاولة مكتب التحقيقات الفيدرالية في الولايات المتحدة الأميركية (FBI)، الإمساك بأحد أكبر المجرمين الذي أرهبوا الولايات المتحدة الأميركية في أواخر القرن الماضي، حيث كان يقوم هذا المجرم «تيد كازينسكي» بإرسال طرود تحوي متفجرات إلى الجامعات وشركات الطيران، وإلى غيرهم من الضحايا. وفشلت السلطات الأميركية لأكثر من عقد من الزمان في القبض على كازينسكي، حتى نالوا منه في النهاية عن طريق رسائله، حيث استخدموا لغته ولهجته وطريقته في الكتابة في معرفة صفات شخصيته، ومكان ولادته، وعمره، مما دلهم في الأخير على اسمه، وهويته الشخصية.
ربما تبدو اليوم هذه القصة عادية، لكثرة حديث العلماء والأدباء والفنانين عن قوة الكلمة وأفعالها، إلا أن ذلك في وقتها كان حديث جنون، خاصة لمن يقدسون الأدلة الجنائية المادية، إذ كيف يمكن لكلمة الشخص أن تتسبب بالقبض على صاحبها بدون آثار مادية جانبية؟
نحن الكتاب، نعشق الأحاديث المجنونة، وكما أنه لنا كلماتنا وأسلوبنا الخاص، لكل شخص أيضاً كلماته وحروفه وأسلوبه ومخارج حروفه الخاصة، وأكبر دليل على ذلك أنه يمكن لأحد محبي الشعر العربي الحديث أن يقرأ نصاً ما ويعرف -دون أن يخبره أحد- ما إذا كانت هذه قصيدة لنزار قباني، أو فاروق جويدة.
على هذه الأرض لدينا العديد من اللغات المعروفة وغير المعروفة، ولهجات متفرعة من هذه اللغات، ولهجات متفرعة عن اللهجات الرئيسية، وفي ضوء ذلك كله، يولد أشخاص في هذه البيئات المختلفة، فكيف لنا في خضم كل هذا أن نقول إنه ليس لكل شخص منا هوية لغوية مختلفة عن الآخر، كما له هوية صورية (خلقية)، وهوية وظيفية، وهوية عائلية خاصة به؟

الهوية اللغوية مثل «DNA» تختلف من شخص لآخر، وحتى بين التوائم. والحمد لله على ذلك، فلا أتخيل عالماً مُضْجراً أكثر من عالم يتكلم فيه الناس بالأسلوب والطريقة نفسها.


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية


السبت، 7 أبريل 2018

لا تقاوم

(ل)
عن التنفس عميقاً، عن الاستلقاء الأخير بعد الدوران طويلاً، عن أول لحظة بعد العثور على التوأم الروحي، عن ثواني الوفاء آخر العمر، عن الجلوس على كرسي الطائرة وسط غيوم الخوف، عن إعطاء ابتسامة طال انتظارها، عن تقبل الحزن و تقبل الفرح و تقبل الحب و تقبل الغضب و تقبل الانتظار و السعادة و الخوف و الحيرة.
عن الوقوع في حضن اللحظة الحالية دون تأوه أو صراخ... عن الاستسلام.

(ا)
نجاهد كل يوم حتى لا نستسلم. نعمل و نتعب حتى لا يقول أحدهم عنا بأننا استسلمنا أو سلمنا أمرنا للغير. و في أكثر الحالات، يكون الاستسلام هو الطريق الوحيد للنجاة في هذه الحياة.

(ت)
أقصد بالاستسلام، عدم مقاومة الحياة. أخذ فعل كل لحظة كما تجيء دون شغل التفكير بالماضي أو المستقبل. متابعة الحاضر، و حسب. إعطاء كل ثانية حقها دون اللهث لما ورائها أو الركض إلى ما يتبعها. كل ما نعيشه حقاً هي اللحظة الراهنة.. و ما غيرها، هو نتاج تفكيرنا و خيالنا. و هذا يجعل كل ما نفكر به كماضي و مستقبل، بلا فائدة حقيقية إن أعدمنا استثمارنا في الحاضر.

(ق)
لماذا الحاضر و حسب؟ لأننا نتذكر الماضي كما صنعناه نحن، لا كما حصل، و لأننا نبني المستقبل كما نراه، بعين واحدة أو بعينين على الأكثر، بينما قد توجد في الكون الآلاف الاحتمالات التي قد لا ندرك ربعها.

(ا)
ما العيب في الماضي و المستقبل؟ لا عيب و لا علة و لا خطأ. الخطأ في استرسالنا بالتفكير بالماضي، و شغله لحياتنا و أفكارنا دون تعلمنا منه و المضي قدماً.
لا عيب في التخطيط للمستقبل، الخطأ في أخذه مساحة منا في كل خطوة نخطيها، و إن لم تكن لها علاقة بالمستقبل الذي خططنا له! بناء المستقبل من المفترض أن يكون طريقاً نرسمه، ثم نتركه لنمشيه في اللحظة الحالية، لا لنفكر به في كل لحظة من حياتنا! و إن كنا سنفعل ذلك، هل يكون عندها طريق، أم سجن، خلقناه بأفكارنا؟ 

(و)
قرأت أكثر عن كيفية الاستفادة من اللحظة الراهنة، و العيش بهدوء في كتاب ايكهارت تولي قوة الحاضر “The Power Of Now”، و قد أخذ بعض التعاليم في كتابه من البوذية و المسيحية. و وجدت بأن الاسلام لا يختلف عن هذه التعاليم في الدعوة إلى ملازمة الحاضر، و عدم ترك الأمور لماضٍ كان أو مستقبل سيكون إن شاءالله. أولم ترتبط قراءة القرآن الكريم بالتدبر و الفهم العميق؟ ألا يكون ذلك من أقصى صور الاستسلام للحظة الراهنة و العيش في فعل يطرد التفكير في أي شيء آخر؟

(م)
استسلموا. لا تقاوموا حاضركم بإزعاج أنفسكم بماضٍ ولده تفكيركم أو مستقبل قد لا تدركونه. كونوا مؤمنين كمن قال: أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد. فالله هو الوحيد الذي يعرف ماضيكم الحقيقي و مستقبلكم الآتي.



جواهر بنت محمد آل ثاني

الاثنين، 19 مارس 2018

تأملات حول الفن



وقعت الأسبوع الماضي في يدي، ورقة تحمل أسألة أثارت انتباهي. كان أول سؤال فيها: ما هو تعريف الفن؟ و الجواب هو أن هناك مئات التعريفات للفن، و لا تعريف للفن. الفن هو المتغير X الذي قد نميزه في معادلة ما، و نفشل في ذلك في معادلة أخرى.
و كان ثان سؤال كالآتي: هل سبق و أن رأيت قطعة فنية، و لم تشعر بأنها فن؟ و لماذا؟ نعم، إما لأنها كانت بسيطة إلى درجة غير معقولة أو لأنها لم تخلق فيني شعوراً أو فكراً أو لم تلمس بي شيء.
و من ثم كان السؤال الثالث: من هم الذين يكون لهم حق القرار فيما يمكن اعتباره فناً؟ و أي معيار يكون عليهم استخدامه؟ الناس هم من يقررون الفن من عدمه، و خاصة الفنانيين القديرين، و النقاد، و متذوقي الفن، و المهندسين، و الكتاب. و هم يقررون ذلك بلا معيار محدد، فالفن كمتغير، لا يستحمل ما يقيده، فما يعتبر فناً اليوم، قد لا يكون كذلك غداً، و العكس صحيح. كما أن وضع معايير ثابتة لتحديد الفن، ستكبل الفن، و الفنانين، و الناس، بل و المستقبل.
رابعاً، هل من الممكن للفن أن يكون سيئاً؟ أم يجب أن يكون الفن جيداً، كي يُعتبر فناً؟ هذا السؤال يمكن تفسيره على أكثر من نحو، و لكن لنقل بأنه ليس على الفن أن يكون جيداً كي يتعبر فناً. يمكن للفن أن يكون سيئاً، و في بعض الأحيان، لا بأس بذلك. و يكون الفن سيئاً، إذا لم يعرض بشكل لائق، أو فُهم على نحو خاطئ، أو أساء إلى طرف أو قضية بدون قصد من الفنان، و غيرها من الأسباب التي تجعلنا نرى القطعة الفنية، و نفكر: ياه! لو لم تكن كذلك، لأصبحت كاملة!
وردت الأسألة السابقة في تكليف دراسي لمجموعة طلبة جامعيين يدرسون إدارة الأعمال، و فوجئت عندما علمت بأن أكثرهم وجدها أسألة صعبة جداً، حتى الطلبة المعتادين على زيارة المتاحف و المعارض الفنية و قاعات السينما. أين المشكلة؟
المشكلة تكمن بشكل أساسي في قراءة البعض السطحية للفن، و ليس عدم الاهتمام به. الكثير يريد رؤية قطعة جميلة و كفى، و القليل من سيضع بعض رصيده في التفكير.. من أين أتت القطعة و كيف و لماذا، و بأي أداة، و ما المقصود منها..إلخ من الأسألة التي يحتاجها الفن كي يعيش و يستمر.
مشاعرنا اتجاه الفن أو ما نظنه فناً، لا يدرس، و لكن تحليلنا لهذه الأحاسيس و ما ورائها و أمامها، يمكن اكتسابه عبر الاعتياد و المثابرة و الملاحظة و الوقوف دقيقة للتقدير أو الاحتجاج. هذا هو الفن.




جواهر بنت محمد آل ثاني

الحقيقة الفلسطينية

        الشمس لا تُغطى بغربال، و الحقيقة كذلك. طوال العقود الماضية، كانت حقيقة ما يجري في فلسطين، و الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُملى على م...