الخميس، 30 مايو 2013

متى يعلنون تغيّر العرب؟

مدخل:
لفكرة أن تقتل أمة، ولكن ليس لأمة أن تقتل عالماً أو شاعراً أو أديباً أو مفكراً أو أياً مما ينتجونه.


قتل نزار قباني -رحمه الله- العرب مرتين في قصيدته «متى يعلنون وفاة العرب؟»، مرة عندما أعلن وفاة العرب ضمنياً في قصيدته، ومرة أخرى بألفاظه القوية اللاذعة التي تركت أثرها على العرب وأعدائهم على حد سواء.
وقُتل العرب مرة أخرى على يد غازي القصيبي -رحمه الله- الذي كتب رده على سؤال نزار قباني بعد وفاة الأخير، في قصيدة حملت نفس الاسم، وكان كل ذلك تشريحاً شعرياً لوفاة العرب، أما الواقع يُثبت وفاة العرب في كل يوم ألف مرة! مرة نموت كمداً، ومرة قتلاً ومرة تكميماً ومرة جوعاً ومرة ذلاً، وهكذا حتى لن يتبقى منا أحد!
القتل يمارس على أمتنا يومياً، بعضه يمارسه غيرنا علينا، وأكثره نمارسه بأنفسنا على أنفسنا. نقتل أفكارنا بأفكارنا وإنسانيتنا بإنسانيتنا وكرامتنا بكرامتنا قبل أن نمد يد القتل على أجسادنا، وما أكثر ممارستنا لفعل التكفير على أفكارنا وأنفسنا وغيرنا كي نطالب بعد ذلك -أيضاً- بالقتل باسمه! ثم يسأل الشعراء، متى يعلنون وفاة العرب؟ وهم لا يسألون عن جهل بل يسألون لشاعرية فيهم، ليأتي الرد من الأشخاص الواقعيين: «ومتى كان العرب أحياء؟»، وليأتي رد آخر من المتفائلين: «بل اسألوا متى سيفوق العرب؟»، ثم يقوم بقية العرب بالتقاتل على هذه الأسئلة وأجوبتها، فيكون ذلك ردهم.
يقول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ». هذه الآية البليغة التي يكررها المثقفون والمتعلمون دائماً، أكمل طريق لتغيير الحال، هذه الآية ليست الحل المثالي لحالنا، بل هي الحل الواجب، فإن غيرنا ما بأنفسنا سينعكس ذلك علينا وعلى مؤسساتنا وقضايانا وحكوماتنا ومجالسنا وتعليمنا، بالضبط كما ينعكس خلق الياباني الذي يرفض رمي مخلفاته في أي مكان غير المكان المخصص لها، على دولته، وبالضبط كما ينعكس خلق الأميركي الذي يرفض أن يمد وقت غدائه لأكثر من نصف ساعة كي لا يتعطل عمله، على دولته. كل ما يفعله أي فرد ينعكس عليه وعلى جماعته، وأكبر مثال، انعكاس تفجير إرهابي نفذه شخص يُقال إنه مسلم -رغم براءة الإسلام من أفعاله- على الإسلام والمسلمين.
السؤال الواجب علينا طرحه هو: متى يعلنون تغيّر العرب؟!


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
المصدر

الخميس، 23 مايو 2013

المحاولة بأسلوب

طلب تشارلز بوكوفسكي -الكاتب الأميركي المثير للجدل- أن تُنقش على واجهة قبره عبارة «لا تحاول!»، وهي رسالة أكد عليها طوال مشوار حياته، مضمونها استنكار محاولة الكتابة من قبل الكتاب والشعراء، والجلوس أمام الورقة أو الشاشة لساعات وساعات، وتجريب جميع الطرق التي تبعث الكتابة في عروق الكاتب كي يخط على أوراقه حبر الإبداع.
يقول بوكوفسكي إنه لا معنى للكلمات إن لم تخرج منفجرة من داخل أعماق الكاتب، وإنه على الكاتب ألا يكتب إلا تلك الكلمات.
فكرت -وأنا أراه على اليوتيوب يتكلم بحماس عن هذا الموضوع- بكتاباتي التي كان الكثير منها نتاج اللامحاولة، والأكثر نسبة منها نتيجة المحاولة، ثم تساءلت: هل لأحد أن يفرق بين الاثنين؟ وما أهمية ذلك ما دام المضمون مضموناً؟ قرأت بعد ذلك لبوكوفسكي في محل آخر: «الأسلوب، هو الجواب لكل شيء، منظور منعش للاقتراب من الأشياء المملة والخطرة… يمكن لمصارعة الثيران أن تكون فناً، يمكن للملاكمة أن تكون فناً، يمكن للمحبة أن تكون فناً، يمكن أن يكون فتح علبة ساردين فناً، ولكن لا يملك الكثير الأسلوب، وليس للكثير أن يحتفظوا به، لقد رأيت كلاباً لديها أسلوب أكثر من بعض الرجال».
أقنعني بوكوفسكي بكلامه هذا، فالإنسان مهما فعل، لن يُحسب له في النهاية إلا ما فعله بأسلوب، وأي أسلوب أفضل من أسلوبه؟ ولهذا آثرت أن يجمع الإنسان بين الاثنين: المحاولة والأسلوب، لا في الكتابة فقط، بل في جميع نواحي الحياة، سواء أكان ذلك في الناحية الفنية، أو الخيرية، أو الاقتصادية، أو العلمية أو غيرها. كل ما على الإنسان كنقطة بداية ترتيب أولوياته ثم الإبحار إما كمحاولة، أو كطريق لاكتشاف الأسلوب والذات، ولا أعرف أي عنصر يسبق الآخر، هل تسبق المحاولة الأسلوب؟ أم يسبق الأسلوب المحاولة؟ كل ما أعرفه أن ذلك يختلف من شخص لآخر، فهنالك من يحاول حتى تصح محاولته، ويجد أسلوبه فيتبعه، وهنالك من يحاول فوراً، لامتلاكه الأسلوب الذي استمده من بيئته وناسها، وأولئك هم القلة المحظوظة التي لا يكون عليهم سوى عناء المحاولة بأسلوبهم.
لا تقرؤوا العبارة التي كتبها بوكوفسكي على واجهة قبره. حاولوا أن تعثروا على أسلوبكم في الحياة كي تبدعوا في الكتابة والرسم وعمل الخير والاقتصاد والسياسة، وإن حدث وفشلتم، حاولوا أن تتوغلوا في تلك المجالات طمعاً في أسلوب يُكتسب من الخبرة. وستعرف بأنك عثرت على أسلوبك، عندما تبدع في المجال الذي تريده، فلا إبداع بلا أسلوب، ولا أسلوب مبدع بلا وجهة.


جواهر بنت محمد آل ثاني.
صحيفة #العرب القطرية.

الخميس، 16 مايو 2013

ازرعوا الورود بأحاديثكم!

مدخل الحديقة:
الكلمات المعبرة كالمدن البعيدة جميلة، ولكن ما إن نقترب منها يخفت جمالها أو يزيد، بحسب المكان وساكنيه.

باب سري:
يتفق الكل حول أن منظراً خارجياً بديعاً يطل عليهم من بلكونة أو حديقة، كفيل بإدخال سعادة مستترة إلى أنفسهم، حتى وإن لم يعطوا هذا المنظر أهميته من حين إلى آخر. والنفس البشرية تحتاج إلى منظر خارجي يعبر عنها للغير، لا بالماديات فقط، بل بالمعنويات أيضاً، التي تكون الكلمات أهمها، لمكانتها بين أدوات التواصل. وما أجمل أن نسعى وراء رقي اللغة التي نتبادلها مع الناس، فنحن من تنعكس علينا الكلمات، أما نحن فلا ننعكس عليها، لأن للكلمات أعراضاً غير محمية يمكن لأي أحد استباحتها، ولكن لا يحميها إلا النبيل الشهم، الذي يعتبر كلامه سلاحه، ووعده هدفه الذي يجب عليه إصابته.
نحن نهم بقدر كلماتنا، وكلماتنا مهمة بقدر أفعالنا، فلا هيبة للكلمة بدون فعل، ولا حتى للصمت هيبة دون فعل، للكلمات هيبتها -فقط- في حين الفعل، أما في ما عدا ذلك فلا تحتاجنا، وإن احتجناها في غير فعل لم تكن كلمات، كانت ثرثرة، ومجموعة منظمة من اللغو المسموع أو المسطر.
في نهاية الأمر لا يهم استخدامنا مفردة معينة أو لفظاً محدداً، كل ما يهم هو ما قصدناه من ورائها، وما تكلمناه عبرها، وما خللناه بها، فالكلام كالفواكه المعلبة إن لم يُحمل بكلمات مثل شكراً وعذراً، وعفواً، عفن! والكلام الجميل يرتكز على اللغة المتقنة القوية التي لا تحتك بلغة غيرها، ما لم تكن مرغمة على ذلك. فيستوي أن تكون اللغة إنجليزية أو عربية أو فرنسية، المهم أن تكون اللغة متقنة كي يكون الكلام جميلاً، فاللغة تعبر عن الكلام بقدر ما يعبر الكلام عن الإنسان.
فمن ذا الذي يهتم باللغة التي كتب بها لوركا قصيدته الموت الأسود، وهو يقرأ:
«أريدُ أن أغفوَ غفوة التفاحْ
أريدُ أن أبتعدَ عن زحمة القبورْ.
أريدُ أن أنام نومة طفلٍ
أرادَ شقَّ قلبِه بعيداً في البحور.
لا أريدُ أن يخبروني مرة ثانية كيف تحتفظ الجثة بدمِها
كيفَ أن الفمَ المتفتتَ يظل ينشد جرعة ماء
لا أريدُ أن أسمع عن فصولِ التعذيبِ التي أعدها العشب
ولا عن القمر الذي أتم أعماله قبل الفجر
وأنفه الأشبه بالثعبان»؟
من ذا الذي يهتم بالأداة، ما دامت الغاية كاملة الإتقان، عظيمة التعبير؟

باب خلفي:
أجمل ما في الكلام، قدرته على الوصول، وأجمل ما في المتحدث قدرته على اختيار كلماته بدقة، تناسب كل زمان ومكان. وبما أن عصر العزلة انتهى والعالم بطريقة وأكثر أصبح أشبه بالقرية الصغيرة، فإن اختيار الكلام المناسب أصبح طريقة من طرق التعايش في العصر الحالي. من أراد الاندماج مع الناس، سيختار كلماته كما يختار ملابسه في المناسبات الكبيرة، ومن لم يرد ذلك، فالأجدر له أن يبحث عن قرية معزولة يعيش فيها وحده!


جواهر بنت محمد آل ثاني.
صحيفة #العرب القطرية.

الخميس، 9 مايو 2013

الحياة أخلاق!

(١)
من أهم الأمور التي يلزم على كل شخص تعلمها هي مكارم الأخلاق وآداب الحياة، والسبب الذي جعلني أغفل وضع "العلوم" في المرتبة الأولى، فهو أن الأخلاق علم من العلوم، ولأن بقية العلوم -رغم أهميتها- يمكن لأي راغب ومهتم أن يتعلمها عبر بحثه عن كتاب أو أستاذ يشفي غليله في ذاك الحقل، أما الأخلاق فلا يمكن أن يتم ذلك معها، بالإضافة إلى أن العلم الحقيقي يُبنى على قاعدة الأخلاق كهرم، لا العكس.
(٢)
يمضي الكثير حياتهم وينتهون منها وهم لا يعرفون لا طعم ولا رائحة ولا جمال الأخلاق. البعض يظن أنها عائق في طرق الحياة، خاصة في مجال العمل، والبعض يظن بأنه وُلد وهو مكتسب كل مكارم الأخلاق، وأن بقية الناس عكسه، والبعض -وهم العملة النادرة- لا يفعلون ولا يقولون شيئاً إلا ويراجعونه تائبين: "هل أخطأنا في حق فلان عندها؟ هل كان يلزم أن نقول ما قلناه؟ هل يجب علينا أن نعتذر؟ هل شكرنا فلاناً؟ هل قصرنا معه؟ هل ساعدناه؟"... ويستمرون هكذا في حياتهم.
(٣)
الحياة عبارة عن وعاء للخبرات، والخبرات التي لا تجر أخلاقاً وراءها لا خير فيها، فالأخلاق كعلم، لها مصدر وأثر ونتائج ومظاهر، وبسبب ذلك كله يجب برأيي تدريسها كمادة علمية عملية منذ الصفوف المبكرة في المدرسة للطفل، وبطرق تعليمية مبتكرة تشد الطالب نحو هذا العلم، مثل القصص والمسلسلات الكرتونية والصور والوسائل المحببة التي تزرع ثقافة الأخلاق في وعيه، دون إحساسه مثلاً بثقل عمل الخير والصواب.

كلمة أخيرة
ساعدوا، ابتسموا، اخدموا، اعملوا، واشربوا من الحياة ألذ رحيق فيها، الأخلاق، ثم تخلصوا من الندم والقلق بعد الكأس الأول.


جواهر بنت محمد آل ثاني.
صحيفة العرب القطرية.

الخميس، 2 مايو 2013

قليلاً من السلام!

الإنسان وفق نظرية داروين ببساطة، مر بعدة مراحل، كان في بدايتها حيواناً إلى أن وصل إلى ما هو عليه اليوم. كلما مر الوقت علا صدى هذه النظرية في أذني.. وكلما قلبت هذه النظرية في رأسي قلت -قبل أن أتعوذ من الشيطان- ربما كنا بالفعل حيوانات في بداية حياتنا على الأرض، وإننا تطورنا مع الوقت ولكن إلى الأسوأ، حتى ارتبط تطورنا بالقسوة والوحشية، وبأفعال ما كانت حتى الحيوانات لتفعلها بنظيراتها.


تاريخياً، يُعد وقتنا هذا من أكثر الأوقات استقراراً وسلماً على الأرض بين الدول والأمم، ولكن رغم ذلك نرى صعوداً للوحشية والقسوة وازدياداً في تنكيل الإنسان بأخيه الإنسان والحيوان وحتى النبات!

يستشهد البعض بجريمة قابيل وبأوقات العصور الوسطى وعهد جنكيز خان وغيره من الحكام الدمويين، دلالة على أن وحشية الإنسان موجودة مذ بداية الخلق، وأنها لم تزدد في الآونة الأخيرة، وإن كان قد ازداد الإحساس بها نتيجة انتشار وسائل التوثيق بين الناس، من كتب وصور وأفلام وأخبار وغيرها من الوسائل الأخرى.

لست مقتنعة كثيراً بالحجة السابقة، لأن الجرائم الجماعية والتفجيرات الإرهابية لم تكثر إلا في عصرنا، والصمت الدولي والإنساني لم يكن أعلى في وقت من الأوقات أكثر من عصرنا.

العنف الذي نسمعه ونراه في فلسطين وسوريا والعراق وإيران وكوريا الشمالية مهمته التصاعد، وبقية الدول واقفة على مسرح العالم بلا حراك وفي صمت مخز.

قليلاً من الإنسانية رجاء، لو بقي من مسماها معنى! قليلاً من الرحمة والمودة والأخوة! قليلاً من الحب والغناء والسلام!

يغني جون لينين في رائعته «تخيل»:

«تخيل أن كل الناس يعيشون في سلام..

**

بإمكانك أن تقول إني حالم،

ولكني لست الوحيد..

آمَل أن تنضم إلينا يوماً

وسيصبح العالم كشخص واحد

**

تخيل أن ليس هناك أملاك..

أتساءل إن كنت تستطيع!

لا حاجة للطمع أو الجوع

فقط أخوّة الإنسان..

تخيل أن كل الناس يتقاسمون العالم....»

تخيل! هل لك أن تتخيل؟  


جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
 المصدر

المدن تتعلم أيضاً

يعبر عن المدن أبناؤها ويعبر عن أبنائها ما يفعلون بها. الأرض لا تتكلم لكنها تفعل ذلك بألسنة مواطنيها، والأرض هي من تتحمل، لكن مواطنيها هم من يتجملون.


مدن اليابان مثال على تلك المدن المثالية البناء والمواطنين، فكل قاعدة بنيت بإخلاص، وجل الإخلاص وُلد من بطن المعاناة والمأساة، من زلزال ١٩٢٣، إلى خراب الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى زلزال ٢٠١١، الذي أعقبه التسونامي المدمر. هذه دولة لا تنتهي الكوارث فيها، بل تبتدئ منها وتنتهي إليها، ورغم كل ذلك يعمل ويعمر مواطنوها كل يوم جزءاً منها، فلا هم يهربون ولا هم يتهربون.

اليابان دولة لا ترى فيها سلات القمامة في الشارع، ورغم ذلك لا ترى أيضاً أية قاذورات هنالك. هي دولة يتعلم فيها الطباخ المتخصص في السوشي لمدة تصل إلى عشر سنوات كي لا يصيب أحداً بالتسمم. هي دولة يعطي أفرادها %١١٠ من طاقاتهم لها لاعتقادهم بأنها ليست هي من تمثلهم فقط بل هم من يمثلونها أيضاً. اليابان دولة فازت وتفوز وستفوز، فازت على أميركا في الحرب العالمية الثانية بعد أن تغيرت وتطورت وتعلمت من مأساتها وأخطائها، وتفوز في يومنا الحاضر بتكنولوجيتها العالية وحركتها التي لا تهدأ في مجالات، كمجالات الصناعة والاقتصاد والتجارة، وستفوز بنظرتها للمستقبل، وبطموح وعمل من يدفعون بها إلى الأمام.

دولة لا تتعلم من مأساتها وأخطائها لن تفوز لا في سباقها مع نفسها ولا في سباقها مع غيرها، ودولة كهذه ستخسر بسبب مواطنيها الذين لم يعملوا لها بقدر ما كانوا يعملون لأنفسهم. اليابان تعلمت من كوارثها الكثير حتى أصبحت مثال الدولة المتقدمة والمتطورة، وما جعلني أعطيها هذه الأوصاف هو ظني، مطابقتها لمعيار الدول المتقدمة الذي أعتقده، وهو إجراءات السلامة في الدول، فكلما اهتمت الدولة بسلامة أفرادها في الخارج والداخل، وفي الحاضر والمستقبل، تقدمت الدولة. هذا ما تعلمته اليابان، وهذا هو ما علمها النجاح.  


جواهر بنت محمد آل ثاني.
صحيفة العرب القطرية.
 المصدر

من أنا؟

(1)


الحياة ليست إلا مستودعاً، يبحث فيها الإنسان عن نفسه. يبدأ رحلته من الباب الأمامي، وسرعان ما يجد نفسه خارج المستودع، يبحث عن ساعته التي أضاعها في الداخل، فلماذا يبحث عن نفسه؟ ولماذا تنتهي حياته وهو ليس متأكداً مما وجد؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن يجيب عنها كل إنسان بعد أن يسأل نفسه: من أنا؟ وإلى أي حد قد أذهب كي أكتشف نفسي؟ وحده الناجح يعرف جواب هذه الأسئلة، أما بقية الناس فقد يستدلون بالأفلام والكتب والواقع والخرافات والموسيقى، وقد يصلون بعدها إلى حل معضلة «من أنا» أو لا يصلون، لكنهم بالتأكيد يحاولون قبل أن يصل اليأس إلى قلوبهم، ومن ثم إلى حياتهم.

(2)

من أنا؟
أنا فكرة، أنا خطوة، أنا كلمة، أنا حية، أنا شعور، أنا قبيلة، أنا سفينة، أنا كل شيء، ولا شيء، ولذلك أتعوذ من كلمة أنا!
هذه إجابة نموذجية، لسؤال من أنا، لكنها إجابة لا تحل السؤال، بل تعقده أكثر، فتضع من بين ثناياه أسئلة، تُولد أسئلة أخرى، فإن كنت أنا فكرة، فما هي الفكرة التي أعبر عنها؟ وإن كنتُ خطوة، فنحو أي اتجاه أنا ذاهبة؟ وإن كنتُ كلمة، فما هو المعنى الذي قُصد بي؟ وإن كنتُ حية، فما هو الشيء الذي يعطيني تلك الصفة؟ وإن كنتُ شعوراً، فما هو الشعور الذي يميزني عن غيري؟ وإن كنتُ قبيلة، فإلى أي أرض سألجأ؟ وإن كنتُ سفينة، فعند أي ميناء سأرسو؟ وإن كنتُ كل شيء، ولا شيء، فلماذا إذاً لا أشعر بالتوازن والكمال؟


(3)
ميلاد الإنسان يبدأ بسؤال من أنا، هذا هو أهم سؤال، وإجابته أخطر إجابة؛ لأنه بحسبها يحدد الإنسان اتجاه حياته وخطواته وخطته، بحسب الإجابة يبدأ مشوار الإنسان في تحقيق ذاته بعد أن عرف أولوياته، ومهمته، واهتماماته، بحسب الإجابة يمكن للإنسان استشراف مستقبله، حسنه وسيئه، طوله وقصره، استمراره وانقطاعه، والإنسان وحده هو من يملك تفتيت مستقبله، فيفعل ذلك بخطة خاسرة يلعبها بقطع شطرنج الحياة بعد أن يفشل في معرفة نفسه.
لا نقرأ كتب التاريخ على سبيل اللهو، ولم توجد القاعدة الأبدية «التاريخ يعيد نفسه»، من باب المفارقة إن حدث فعلاً وكرر نفسه، بل نقرؤه كي نعرف من كنا، لنعرف بعدها من نحن، ومن سنكون في المستقبل، ولكي نعرف، إن كانت نسختنا المستقبلية أفضل أم لا، فلنحرص إذاً على استشراف المستقبل جيداً، والعمل عليه بعد العثور على المفتاح الذهبي «الأنا». 


 جواهر بنت محمد آل ثاني.
صحيفة العرب القطرية.
 المصدر  

الحقيقة الفلسطينية

        الشمس لا تُغطى بغربال، و الحقيقة كذلك. طوال العقود الماضية، كانت حقيقة ما يجري في فلسطين، و الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُملى على م...