الخميس، 26 فبراير 2015

اختر جليسك

أجزم بأن المتنبي عندما قال بيته الشهير المساوي لبقية أبياته الأخرى: «خير جليس في الزمان كتاب»، لم يخطر على باله زمن يتحول فيه خيرة الجلساء إلى هاتف نقال في يد المجنون والعاقل والصغير والبالغ والغني والفقير على حد سواء في كل مكان. نعم قد يحتوي الهاتف على كتب إلكترونية- وإن كانت في الأغلب مجانية ولا تُقرأ- ولكنها أيضاً تحوي برامج للتحدث الفوري كالواتس آب، وحسابات البريد الإلكترونية، والخرائط، والألعاب الرقمية، وبرامج التواصل والتشارك الاجتماعي، كتويتر والإنستجرام، والآلاف من البرامج الأخرى، منها المعروف ومنها المتداول لمدة قصيرة، ومنها المنسي، ومنها الذي يشق طريقه حتى الآن. 
هذه البرامج هي ما يهرب إليها «الإنسان العصري» بمفهوم الكثير من الكتاب وبعض المثقفين في التجمعات الإنسانية المملة، بل وفي بعض الأحيان غير المملة، وهي التي يلجأ إليها الإنسان في الليل قبل نومه وبعد صحوته، وفي فترات متقطعة في اليوم بقدر ما يتيسر له ذلك.
إذاً الكتب في أحضان الناس تحولت إلى أجهزة إلكترونية تلعب بها الأيادي، البعض لا يستخدم إلا هذه الأدوات في عمله، والبعض الآخر يستأنس بها كما استأنس العرب قديماً بالشعر. هذا طبيعي بحسب سنة التطور البشري العلمي والثقافي والاجتماعي، والتقدم من أداة إلى أداة أخرى محمود مثل التحول من الآلات الطابعة التي كان ولا يزال بعض الكتاب يكتب أفكاره بها إلى كمبيوتر محمول صنع سنة 2014، ففي هذه الحالة يُفترض بأن المضمون واحد، فمن سيكتب رواية على آلة طابعة، سيكتب مثلها إن استخدم بدلاً عنها الكمبيوتر، والفرق أن كتابة الرواية على الكمبيوتر ذات مجهود أقل، بالإضافة إلى أن برامج الحاسب تساعد على اصطياد أخطاء الكتاب اللغوية والإملائية، فإذاً ليس كل تطور سيئ ومن أعمال الشيطان، والأسلم أن نقول إن لكل تطور شقين، شق إيجابي مثل الذي ذكرته وأوضحته بمثال، وشق خطير من ناحية ومختلف على إيجابيته وفي سلبيته من ناحية أخرى، كاستبدال الكتاب بالأجهزة الإلكترونية كالهواتف النقالة والأجهزة المكتبية والكمبيوترات المحمولة وغيرها مما يشابهها، هو خطير من ناحية، لأنه انتقال علمي ومعرفي من الجذور العميقة إلى الأوراق السطحية، فالبعض بدأ في الاعتقاد أو آمن فعلاً بأن قراءة معلومة من تويتر في حدود 140 حرفاً كقراءة معلومة من كتاب، قد يمتد فيها شرح المعلومة إلى صفحات وصفحات، ومُختلف على هذا الشق من ناحية أخرى لأنه مصدر رزق البعض، ومنبع علاقات البعض الآخر، ووسيلة معرفة لبعض البعض.
أياً كان رأيك الشخصي بعد استبعادك تعلقك بهاتفك النقال، تذكر بأن الهواتف النقالة مثل الآيفون قد تحتوي على جميع البرامج والألعاب، بل والكتب، إلا تجربة الحياة وغزارة الكتاب.


جواهر بنت محمد آل ثاني

صحيفة العرب القطرية

المصدر

الخميس، 12 فبراير 2015

صنّف بعدل

لست امرأة، لست جسداً، لست رداءً، ولست منظراً طبيعياً، لست نصف هذه التسميات ولا أنتمي إلى إحدها. أحياناً أشعر بأني كائن هوائي ومرات ترابي، وفي أحيان بحري. أنتمي إلى أحد هذه العناصر في بعض الأوقات وفي أوقات أخرى ولا لأي منها.. ولكني أبقى نفس الشخص بنفس التفكير ونفس الأسئلة ونفس المآسي والانتصارات والتثاؤبات والسكنات والحركات، ولكن بتسمية أخرى لا أعرفها رغم أنها تسكنني وأسكنها، لكنها تفضل أن لا تطلعني على عنوانها.
ولأنني أنا، أتفهم امتناعها، فالتصنيفات لا تخلق الإنسان وإن كانت ما يخلفه. أنت ما أنت عليه، بكل الأسباب التي أودعتك مكانك، والحطام الذي تركته وراءك، لست معلوماتك الإجبارية التي تكتبها عند اشتراكك في نادٍ جديد، ولست ما تقوله عائلتك عند عائلة زوجك المستقبلي، ولست من يجلس في الحفلات الكبيرة بجانب صاحب الحفلة، أنت من تحاول أن تمسك أعصابك عند صراخ مدربك في النادي عليك ليمنعك من التباطؤ، أنت الشخص الذي يعيش ويأكل ويسافر مع زوجه بعد العرس، أنت من ترجع إلى بيتك بعد الحفلة متأخراً لتقوم بعدها في الصباح الباكر. أنت أحزانك دون ركامك أنت سعادتك دون ذكرياتك، لماذا؟ لأن غيرك من الناس لا يرى ركامك ولا يشعر بذكرياتك.
??أنت ملامح قلبك ومنحنيات عقلك، أنت تقلبات أفكارك وتموجات أحاسيسك، ولست نسبة صبغة الميلانين في جسدك، أو فوران الأدرينالين في رأسك عند الغضب. أنت مكونات إحساسك بالحياة والموت والإيمان وعدم الإيمان. أنت ما تكونه وتفكر فيه وتفعله عندما لا يوجد شيء تفعله. أنت أقوالك عندما لا يوجد شيء لتخسره، وأفعالك عندما يكون كل شيء على المحك. أنت أحلام طفولتك التي تحققت والتي لم تتحقق، أنت إحساسك الذي تكتمه خوفاً منه، والخوف الذي يولد هذا الإحساس.
??أنت كل هذا وأكثر بكل أمتعتك وأشيائك وأفكارك ومشاعرك وطفولتك وأعمالك وعائلتك وأوراقك الرسمية، بكل ما لا يرضى أن يتم تصنيفك، فكيف تقبل أن تصنف غيرك، بنظرة، كلمة، إيماءة، إشارة، أو حتى فكرة، بها تجعله مع غيره ممن لا يعرفه أو لا تعرفه أو لا يعرفه كلاكما؟ 
??اكتب ما أكتبه لأقول بأنه لا يمكن تصنيفك ومع ذلك أصنفك، وأنت تصنف غيرك ليصنفني الغير، كل هذا مقبول ما دمت لم تحكم على غيرك -دون معرفة- وتسجنه بإعلان رأيك للناس بحكم مؤبد. كل هذا مقبول ما دمت ستتعامل معه على أساس شخصه لا شخص أو شخوص الفئة التي وضعته معهم.
??صنف، صنف على راحتك يا عزيزي، لكن امنح نفسك فرصة معرفتي، ثم ارضَ أن تضعني في خانة وحدي إن شعرت في قرارة نفسك بأن ذاك هو مكاني.

جواهر محمد عبد الرحمن آل ثاني

صحيفة العرب القطرية



قليل من الإلهام

الكثير من الكتاب والفنانين جعلوا للإلهام آلهة، بل وأعطوها أسامي خاصة بها، يستدعونها ويتضرعون لها وقت الشدة واليأس، أما وقت الرخاء والأمل فتأتيهم دون بطاقة دعوة، إما بقوة موجة تطرحهم على ظهورهم، أو بخفة هواء يشابه صوته صوت المطر عند ملامسته الأرض. يأتي الإلهام في بث أغنية على الراديو، أو في وردة سقطت في الطريق خطأً، أو في لوحة زيتية لمستها ورأيتها حقيقة في إحدى رحلات البر والبحر، أو يأتيك الإلهام في شعور أحسسته تجاه شيء أو شخص أو حتى تجاه نفسك، وما أكثر من أبدعوا بسبب كرههم لشخص أو حبهم لشيء أو مقتهم أو إعجابهم بنفسهم.
أما أهم أنواع الإلهام فهو ذاك الذي يجلبه شخص آخر إلى قدميك. يحضره لك بسبب شعورك تجاهه، سواء أكان غيرة أو حسداً أو مقتاً أو عشقاً أو حقداً أيا كان ذاك الشعور، وإن كان بلا اسم لتقلبه من حين لآخر، وإن كان التقلب في اللحظة نفسها! هو أهم أنواع الإلهام، لأنه حقيقي ملموس محسوس يولد في داخل الغابات الإنسانية العصبية قبل أن يخرج لصحراء الواقع. هو أهم أنواع الإلهام لأنه لا يجعل الشخص كاتباً أو فناناً أو كاتباً أكثر أو فناناً أكثر فقط، بل قد يجعله يفعل أو يفعل أكثر، ويكون فعله مهماً وملهماً أيضاً لغيره، وعندها سيصبح العالم ذا معنى أكبر وعقولاً أعظم.
نرجع إلى السؤال الذي لم يكتب في أول سطر، ولكن كل كلمة كُتبت تجاوبه، لماذا تعظم قبائل الكتاب والفنانين بكاء طفل ضائع في الشارع؟ أو وجود بلكونة في غرفة الفندق؟ أو مقابلة حب المراهقة مرة أخرى في الكبر؟ لماذا يقدسون كوب قهوة بين الفطور والغداء، أو ليلة أرق كاد الجنون يصيبهم بسببها، أو ورقة وقلماً اشتروهما لسبب ثم نسوا السبب وأبقوا على الورقة والقلم؟
يفعلون ذلك حتى يصنعوا من أنفسهم وأعمالهم نصباً تذكارية تلهم الناس، ليلهم الناس بدورهم غيرهم، وبذلك تكون الأيام محتملة أكثر وأقل مللاً. بلا أناس متناسخي اللون والشكل والطعم والأفكار والتصرفات والأقوال. 
هذا ما يحتاجه العالم، قليل من الإلهام.

جواهر بنت محمد عبدالرحمن آل ثاني

صحيفة العرب القطرية

المصدر


فلنتحدث عنه قليلاً

(بوصلة)
مشكلتنا بأننا نخشى الحديث عنه كخوفنا من الحديث عن الله. نرتعب من أن تخرج كلمة من أفواهنا نكفر أنفسنا بسببها قبل أن يكفرنا بها غيرنا، لاحظوا لا وجود للكفر الحقيقي المذكور في القرآن والسنة النبوية بين هذه وتلك.
عن من أتحدث؟ عن أشرف الخلق وسيد البشر وخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. عن من فكر فينا قبل أكثر من أربعة عشر قرناً مضت، وعن من نركض من أنفسنا إليه وإلى شفاعته يوم القيامة لنحصل عليها إن نحن فقط صلينا عليه ما بين الحين والآخر.
لماذا أتحدث عنه؟ لأننا نخاف ذلك، وخوفنا خلق معضلات كنا لنكون في غنى عنها لو أخذنا وأعطينا في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وهي كلها عطاء.
عدم نشرنا لسيرته عليه السلام خلق تعصباً له بلا فهم أو وعي. أصبحت عبادتنا بالصلاة والسلام عليه حفظاً وترديداً بلا روح أو حب. 
لا نفهم بأننا عندما نكف الأذى عن غير المسلم، نكون جزءاً من كله الكريم. لا نعرف بأننا عندما نصمت عن الإساءة -وإن كانت له- نتشبه عن طريق هذا الفعل به وبصحابته الكرام. لا ندري بأن الكلمة الحسنة والبسمة الطيبة والنظرة المؤمنة هي منه وفيه وفي ما يذكر عنه.
واجبنا هو أن نحب الرسول أكثر من أنفسنا وآبائنا وأمهاتنا، ولكن الحب وحده لا يكفي، من واجبنا أيضاً أن نتعلم منه، لأن أخلاقه من أخلاق الإسلام وأخلاق الإسلام من أخلاقه، وبذلك يجب أن يكون قدوتنا في أنفسنا وفي غيرنا وبوصلتنا في الطريق وفي الضياع.
كيف نسمي ما يتم ممارسته من قتل حول العالم دفاعاً عن الرسول، وهو من كان لا يعطي أية أهمية لمن يسميه بالشاعر والمجنون؟ أين اقتداؤنا به وهو الذي كان ليفضل حفظ دماء أي إنسان مقابل الإساءة؟ إن لم نقرأ ذلك في سيرته عليه السلام مع جاره اليهودي وغير ذلك من مواقفه العظيمة، فلنأخذه من المعلم الأول القرآن الكريم في قوله تعالي: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا».

(إبرة البوصلة)
لا تمارسوا الجهل، وتمرسوا المعرفة. فلننشر سيرته عليه السلام ولنتحدث عنه وكأنه بيننا، نذكر أحاديثه ومواقفه وانتصاراته وصبره وحزنه علينا وأمله فينا، لنحاول ألا ننساه وألا نتذكر فقط واجبنا اتجاهه، لأن الواجب بلا إخلاص وحب عمل آلة أوتوماتيكية، وكل آلة لا تُصان، مصيرها الهلاك.


جواهر بنت محمد عبد الرحمن آل ثاني

صحيفة العرب القطرية



الحقيقة الفلسطينية

        الشمس لا تُغطى بغربال، و الحقيقة كذلك. طوال العقود الماضية، كانت حقيقة ما يجري في فلسطين، و الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُملى على م...