الثلاثاء، 28 يونيو 2022

يا قريب كن فهيم!

  

 

"بالأمس كان الجو حار جداً في قطر، الحرارة التي لا يكون بمقدورك التقاط أنفاسك بسببها. ذهبت في هذا الجو إلى مركز خدمات لأخلص معاملاتي، و انتظرت هناك لمدة ساعة، ليأتي دوري و يخبرني الموظف بأن أخلصها عند موظف آخر لأنها ليست من اختصاصه! راجعت بعد ذلك الموظف الآخر الذي دلني عليه الموظف الأول، ليخبرني بأن الموضوع ليس من اختصاصه كذلك، و لا يعرف اختصاص من! سألته: إذاً، من أراجع؟! فرد علي: اسأل الاستقبال!". سأتوقف عن سرد هذه القصة التي قد تكون واقعية جداً لدى الكثير، و سأسأل: ماذا لو تم ارسال هذا الموقف كمقطع صوتي في مجموعة العائلة على الواتساب؟ على الأرجح أن البعض لن يعيره أي اهتمام أو أنهم سيتفهمون الموقف لأنهم قد مروا به من قبل. و لكن ماذا لو تلفظ رجل أعمال أجنبي (غير قطري) بهذا الموقف في حسابه على سناب شات؟ الأكيد بأن البعض سيركز على كل حرف و كلمة تم البوح بها لأنها انتقاد خرج من فوه أجنبي لا قطري!

هذه الموجة من عدم التسامح مع أي شيء يقوله أو يفعله الأجنبي، لا ترتفع اليوم في الخليج و حسب، بل في كل مكان حول العالم، وهي اليوم ترتفع أمتاراً طويلة مقارنة بالوضع قبل عشرين سنة مثلاً. و أسباب عدم التسامح تتعدد و لكن السبب الرئيس و الأهم هو وجود الاختلافات بين المواطن و الأجنبي، سواء أكان هذا الاختلاف في الجنسية أو اللون أو العرق أو المستوى المعيشي أو المعرفي أو العملي أو غيره.. المهم هو أن السبب هو الاختلاف.

الانسان لا يتعارض مع انسان يشبهه في الأمور الأساسية بالنسبة إليه، و لكنه قد يتعارض مع انسان يختلف معه في هذه الأمور. و التعارض و الاختلاف و حتى الخلاف وارد الحدوث بين الناس، فمن في هذا اليوم مثلاً بالتحديد لم يختلف مع شخص آخر في رأي واحد على الأقل؟! الحل لا يكون أبداً في الهجوم الشخصي و دعوات الطرد من البلد!

الأجدى هو معرفة أن السبب الحقيقي وراء كل هذه العصبية هو الاختلاف، و أن العقلية المنتشرة هذه الأيام و المتمثلة في "نحن" و "هم" هي ما تجعل هذا "الاختلاف" شيء لا يطاق.. و هو في الواقع اختلاف كأي اختلاف آخر.. بل أن الأمور المتشابهة بين الناس هي أكثر من الأمور المختلف فيها.. كما قال الله تعالى في سورة البقرة: (كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ). (٢١٣).

مادام الغريب أديب، في تعبيره عن مشاعره و أفكاره و نقده و بعيداً عن الرغبة في الإضرار بالوطن.. لا يبقى إلا قبول اختلافه و الابتعاد عن الحساسيات التي تهدم الأمم و الأوطان.. و يا قريب كن فهيم!

 

جواهر آل ثاني

صحيفة الشرق

المصدر


الثلاثاء، 21 يونيو 2022

السعي وراء الجواب

 

من ضمن قراءاتي في مجلة هارفرد بزنس ريفيو، لفت انتباهي أمر في بعض المقالات.. و هو أسئلة كُتابها. لا الأسئلة فقط.. بل كثرتها أيضاً! يسأل الكثير من كتاب هذه المجلة المرموقة في بداية المقالة، الأسئلة التي يجاوب عليها مقالهم بعد ذلك بشكل واضح و صريح.. ليكون أمام القارئ، الذي سيكمل-على الأرجح-القراءة لمعرفة الجواب. و من هذه المقالات التي لفتت انتباهي هي مقالة بيتر دركر، (MANGING ONESELF) عن كيفية قيام الشخص بإدارة نفسه. و فيه يسأل الأسئلة التالية: ما هي نقاط قوتي؟ ما هي أفضل طريقة تحفزني على العمل؟ ما هي القيم و المبادئ التي أستند عليها في حياتي؟ ما هي البيئة أو المكان الذي أنتمي عليه بناء على قيمي و نقاط قوتي؟ ما الفائدة التي يمكنني إضافتها إلى هذا العالم؟ و عبر الإجابة على هذه الأسئلة، يصل الانسان إلى حياة مليئة بالنجاح و التميز وفق دركر.

و في مقالته المنشورة في يوليو ٢٠١٠، يؤكد كليتون كريستينسن بأن النظريات و الاستراتيجيات المُدرسة في ماجستير إدارة الأعمال في هارفرد، يُمكنها أن تساعد المرء على خوض حياة أسعد و أجمل إن طبقها في حياته، و لكن عليه أولاً أن يسأل نفسه هذه الأسئلة: كيف يمكنني أن أصبح سعيد في عملي؟ كيف يمكنني أن أجعل علاقتي بعائلتي مصدراً لسعادتي؟ كيف يمكنني أن أحيا حياة مليئة بالصدق و الأمانة؟ و لا أنسى سؤال كريستينسن الأهم، و الذي عنون به مقالته "كيف ستقيس حياتك في المستقبل؟"!

هذه الأسئلة التي يملأ بها الكُتاب مقالاتهم و رؤوسنا.. هي مفاتيح الأبواب التي علينا أن نفتحها في حياتنا. فبالأسئلة ندخل في عوالم أخرى جهلنا وجودها من قبل. فعندما يسأل الشخص نفسه: أين أنا؟ و ماذا أريد أن أصبح بعد خمس سنوات؟ يمهد لنفسه طريق جديد، قد يأخذه إلى أفاق جديدة لم يتوقع إمكانية وجودها في السابق! و لا يُشترط في السؤال وجود الإجابة مسبقاً. قد نسأل أسئلة لا نعرف إجابتها بعد. الشخص الذي يسأل نفسه: ما هي الحرفة التي أحبها و أريد أن أحترفها بقية حياتي؟ قد لا يعرف ما هي حتى يجرب العشرات من المهن و الحرف على مر السنين، و لكن الأكيد بأنه سيجد في النهاية الحرفة أو المهنة التي يحبها إذا أكمل سعيه في هذه الحياة. فإجابات جميع الأسئلة موجودة، و لكن علينا فقط السعي و البحث عنها.. فقد قال الله تعالى في سورة إبراهيم: (٣٤)(و آتاكم من كل ما سألتموه). ستصلنا جميع الإجابات، و لكن علينا البدء بالسؤال أولاً، و من ثم السعي وراء الأجوبة!

 

جواهر آل ثاني


صحيفة الشرق

 المصدر



الأربعاء، 15 يونيو 2022

المتسوق السري

  

 

أعلن ديوان الخدمة المدنية و التطوير الحكومي الأسبوع الماضي عن مبادرة جديدة باسم "المتسوق السري"، و هي عبارة عن مبادرة يتم فيها اختيار متطوعين من المجتمع لتجربة و اختبار نوعية و جودة الخدمات الحكومية المقدمة في قطر. و يقوم المتطوعين بعد ذلك بتقييم الخدمات الحكومية، ليتولى ديوان الخدمة المدنية دوره في رفع التوصيات إلى هذه الجهات الحكومية لتحسين خدماتها و أعمالها.

سررت جداً بهذه المبادرة الخلاقة، الهادفة إلى تحسين جودة الخدمات الحكومية في الدولة و الرفع من مستوى تجربة العميل. فبالاستعانة بمتطوعين من المجتمع بدلاً من موظفين ديوان الخدمة المدنية، قد نرتقي بالخدمات فعلاً، فالمتطوعين لا يتقاضون أجراً على هذا العمل الذي يخدم دولتهم و مجتمعهم، و نظرتهم إلى هذا العمل حيادية تماماً، جُل همها هو تحسين و تطوير الخدمات الحكومية التي نستعملها جميعاً على امتداد حياتنا.

وهذا الاتجاه الجريء الذي تدخل على خطه ديوان الخدمة المدنية، هو الاتجاه الذي على جميع الجهات الحكومية التفكير بالأخذ به.. و هو التفكير بالعميل "كزبون" "كمتسوق" "كباحث عن تجربة مميزة" عند بدء الإجراء الحكومي أو الأخذ بالخدمات الحكومية. فالجميع يرى تميز الشركات الخاصة في تقديم خدماتها المسهلة و السريعة. بعض الشركات تصلك إلى بيتك في ساعة لتوقع على الأوراق أو لتعطيك المستندات. و في شركات أخرى لا تضطر إلى الوقوف في طابور أو الرجوع مرة ثانية بالمستندات المطلوبة، "فالإيميل يكفي"!

بطبيعة الحال، الشركات الخاصة تبحث عن التميز في خدمة العملاء كيلا تخسرهم، و هذا ما لا تخافه معظم الجهات الحكومية، فعملاء الجهات الحكومية مضطرين إلى اللجوء إلى خدماتها.. و لكن هذه الجهات معرضة إلى خسارة المستثمرين من مواطنين و أجانب، بالإضافة إلى تهاون العملاء في استعمال بعض الخدمات الحكومية اللازمة، و هذا ما قد يؤثر سلبياً على العملاء و غيرهم.

و من الأمثلة الجيدة في الدولة على تحسين الخدمات و تنويعها، هو "بريد قطر" الذي رفع من مستوى و جودة خدماته، حتى أصبح الكثير يُفضله على الشركات العالمية الأخرى الشهيرة. و هذا ما نطمح أن نصل إليه في قطر.. التميز و الإبداع في جميع الأوجه و على الأخص في الخدمات المقدمة للعملاء، الكبار منهم و الصغار. و بتحسين الخدمات البسيطة المقدمة للعملاء، يرتفع المعيار بالنسبة للخدمات الأخرى، و سيصبح المطلوب في المستوى.. من أفضل إلى أفضل، والطريق يبدأ من هنا. 

 

جواهر آل ثاني

صحيفة الشرق 

المصدر


الثلاثاء، 7 يونيو 2022

حياة أخرى قبل الحياة الآخرة

 

يفكر الناس في أحوالهم بعد خمس و عشر سنوات، بل و يضعون الخطط لما سيكون، و يريدون أن يكون في حياتهم و في تأثيرهم حول العالم.. و لكن ماذا عن الحياة بعد مئتين سنة من الآن؟ هل يتخيلها أحد؟ هل يركض أحد ورائها و يخطط لها؟ الجميع يريد أن يعيش إلى الأبد و لكن لا أحد يتخيل حياته أبعد من خمسين سنة!

الواقع هو أننا سنكون على الأغلب منسيين بعد مئتين سنة.. لن يذكرنا أحد حتى أحفاد أحفادنا وأبناء أحفاد أحفادنا.. إلا الخالد منا ذكره و العظيم منا في أثره! و هذا الأثر و الذكر الذي لا يُنسى.. لا يُشترط به أن يكون عظيماً أو كبيراً أو أن يكون الشخص مشهوراً أو ذا شأن حتى يكون له أثر و ذكر. يوجد الكثير من الناس غير المشهورة التي لا يزال ذكرها حي حتى الآن على اللسان. الجد الثالث الذي ورثكم الأرض التي تعيشون عليها اليوم ذا أثر عظيم.. معلم المدرسة الابتدائية الذي حببك في الرياضيات و العلوم حتى أصبحت مهندساً و ابنك فناناً.. ذا أثر عميق..

لا يلزمنا أن نفعل أشياء عظيمة أو أن نصبح مشاهير حتى يصير لنا آثارنا و ذكرنا بعد موتنا.. فأحياناً يكون للأمور الصغيرة الأثر الكبير. كلنا نعرف الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي اُشتهر عنه بأنه كان يحج عاماً و يغزو عاماً و الذي كان له جميع المقومات لكي يغطي نوره أي شخص حوله، و لكن نجمه لم يحجب نور زوجته زبيدة بنت أبي الفضل جعفر بن أبي جعفر المنصور، التي عرفها القاص و الدانِ من حجاج المسلمين في وقت من الأوقات، و يسمع بها الكثير من المسلمين حتى الآن. هذه الأميرة التي حجت في سنة ١٨٦ هجري و رأت بعينيها مصاعب الحجاج في حمل الماء و العثور عليه في طريقهم إلى مكة مما جعلها تأمر بحفر قنوات مائية تسد عطش الحجاج و ترويهم خلال رحلتهم إلى مكة. و لا تزال عين زبيدة موجودة حتى اليوم ومتواصل ترميمها.

و من السعودية إلى مصر و عهد السلطان المنصور قلاوون الذي بنى مجموعته من مسجد و مستشفى و قبة و مدرسة في ١٣٠٣ هجري. فقال عن وقفه الذي بناه من مستشفى و مدرسة: "وينتصبُ كل معيد ممن عُيّن في جهته لأهل مذهبه لاستعراض طلبته، ويشرح لمن احتاج الشرح درسه ويصحح له مستقبله، ويرغّب الطلبة في الاشتغال، ولا يمنع فقيهًا أو مستفيدًا ما يطلبُ من زيادة تكرار وتفهّم معنى، ولا يقدم أحدا من الطلبة في غير نوبته إلّا لمصلحة ظاهرة، ويشتغل كل واحد من الطلبة بما يختاره من أنواع العلوم الشرعية، ويراه المدرس له على مذهبه، ويبحث في كل ما أشكل عليه من ذلك، ويراجع فيه، وأن ينظر المدرس في طلبته ويحثهم كل وقت على الاشتغال، ويجعل من يختاره نقيبا عليهم، ويقرر له ما شاء".

و لا أروع من هذا الإخلاص و الحرص في ترك أثر طيب، و قد قال ابن بطوطة عن هذا المستشفى عند زيارته لمصر : "لا وجود لمبنى يشبهه في بلاد العرب والترك والعجم". و لا يزال حتى اليوم هذا المستشفى و هذه المجموعة منتصبة في القاهرة كمعلم سياحي شامخ.

و أنت.. ماذا تريد أن يتذكرك الناس به؟ ما الأثر الذي تريد به أن يتعدى سلالتك الجينية؟ ما الحياة الأخرى التي تريدها لنفسك بعد حياتك هذه و قبل الحياة الآخرة؟

 

جواهر محمد آل ثاني

صحيفة الشرق

المصدر


 

الحقيقة الفلسطينية

        الشمس لا تُغطى بغربال، و الحقيقة كذلك. طوال العقود الماضية، كانت حقيقة ما يجري في فلسطين، و الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُملى على م...