يفكر الناس في أحوالهم بعد خمس و عشر سنوات، بل و يضعون الخطط لما سيكون، و يريدون أن يكون في حياتهم و في تأثيرهم حول العالم.. و لكن ماذا عن الحياة بعد مئتين سنة من الآن؟ هل يتخيلها أحد؟ هل يركض أحد ورائها و يخطط لها؟ الجميع يريد أن يعيش إلى الأبد و لكن لا أحد يتخيل حياته أبعد من خمسين سنة!
الواقع هو أننا سنكون على الأغلب منسيين بعد مئتين سنة.. لن يذكرنا أحد حتى أحفاد أحفادنا وأبناء أحفاد أحفادنا.. إلا الخالد منا ذكره و العظيم منا في أثره! و هذا الأثر و الذكر الذي لا يُنسى.. لا يُشترط به أن يكون عظيماً أو كبيراً أو أن يكون الشخص مشهوراً أو ذا شأن حتى يكون له أثر و ذكر. يوجد الكثير من الناس غير المشهورة التي لا يزال ذكرها حي حتى الآن على اللسان. الجد الثالث الذي ورثكم الأرض التي تعيشون عليها اليوم ذا أثر عظيم.. معلم المدرسة الابتدائية الذي حببك في الرياضيات و العلوم حتى أصبحت مهندساً و ابنك فناناً.. ذا أثر عميق..
لا يلزمنا أن نفعل أشياء عظيمة أو أن نصبح مشاهير حتى يصير لنا آثارنا و ذكرنا بعد موتنا.. فأحياناً يكون للأمور الصغيرة الأثر الكبير. كلنا نعرف الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي اُشتهر عنه بأنه كان يحج عاماً و يغزو عاماً و الذي كان له جميع المقومات لكي يغطي نوره أي شخص حوله، و لكن نجمه لم يحجب نور زوجته زبيدة بنت أبي الفضل جعفر بن أبي جعفر المنصور، التي عرفها القاص و الدانِ من حجاج المسلمين في وقت من الأوقات، و يسمع بها الكثير من المسلمين حتى الآن. هذه الأميرة التي حجت في سنة ١٨٦ هجري و رأت بعينيها مصاعب الحجاج في حمل الماء و العثور عليه في طريقهم إلى مكة مما جعلها تأمر بحفر قنوات مائية تسد عطش الحجاج و ترويهم خلال رحلتهم إلى مكة. و لا تزال عين زبيدة موجودة حتى اليوم ومتواصل ترميمها.
و من السعودية إلى مصر و عهد السلطان المنصور قلاوون الذي بنى مجموعته من مسجد و مستشفى و قبة و مدرسة في ١٣٠٣ هجري. فقال عن وقفه الذي بناه من مستشفى و مدرسة: "وينتصبُ كل معيد ممن عُيّن في جهته لأهل مذهبه لاستعراض طلبته، ويشرح لمن احتاج الشرح درسه ويصحح له مستقبله، ويرغّب الطلبة في الاشتغال، ولا يمنع فقيهًا أو مستفيدًا ما يطلبُ من زيادة تكرار وتفهّم معنى، ولا يقدم أحدا من الطلبة في غير نوبته إلّا لمصلحة ظاهرة، ويشتغل كل واحد من الطلبة بما يختاره من أنواع العلوم الشرعية، ويراه المدرس له على مذهبه، ويبحث في كل ما أشكل عليه من ذلك، ويراجع فيه، وأن ينظر المدرس في طلبته ويحثهم كل وقت على الاشتغال، ويجعل من يختاره نقيبا عليهم، ويقرر له ما شاء".
و لا أروع من هذا الإخلاص و الحرص في ترك أثر طيب، و قد قال ابن بطوطة عن هذا المستشفى عند زيارته لمصر : "لا وجود لمبنى يشبهه في بلاد العرب والترك والعجم". و لا يزال حتى اليوم هذا المستشفى و هذه المجموعة منتصبة في القاهرة كمعلم سياحي شامخ.
و أنت.. ماذا تريد أن يتذكرك الناس به؟ ما الأثر الذي تريد به أن يتعدى سلالتك الجينية؟ ما الحياة الأخرى التي تريدها لنفسك بعد حياتك هذه و قبل الحياة الآخرة؟
جواهر محمد آل ثاني
صحيفة الشرق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق