«الذاكرة، مخطوطة الروح» قالها أرسطو، وذاكرة الإنسانية هي أثر الإنسان من لغات وفن وأدب وعلم واختراعات واكتشافات وحروب وفتوحات ومؤامرات، وفي جعل الموجود قيماً والقادم أفضل، وأهم ذكريات الإنسانية، وما ساهمت في العديد من ذكرياتها في كثير من الأحيان هي اللغة، التي قدر على أسمائها الإنسان وعجز عنها الملائكة.
تبقى في ذاكرة الإنسانية جميع اللغات المعروفة وغير المعروفة والحاضرة والمنقرضة والصعبة والسهلة، أما ذاكرة الإنسان فلا يوجد فيها سوى اللغات الحالة المتطورة عبر الأزمان حتى اليوم الحاضر، ونفس هذه اللغات يوجد فيها اللؤم والخداع والمرض والجشع، كما يوجد فيها الطيب، وحسن الظن، والصحة، والكرم، وملايين الملايين من المفردات الأخرى التي قد يتطور بعضها وقد ينقرض بعضها الآخر، ما عدا كلمات لا يزيد عددها عن أصابع اليد الواحدة هي الخير والشر والحب، والحياة، والموت.
تطور اللغة وتغيرها وحتى تلحينها أمر لازم، لأن التغيير سنة من سنن الحياة، واللغة جزء منها، لأنها وحدها كائن حي، يحيا عندما يُوجد، ويكبر عندما يتطور، ويموت عندما ينقرض. تطور اللغة أمر مهم لأنها قد لا تتطور إلى الأحسن بل قد تنحدر إلى الأسوأ، وبالتالي ترسخ في ذاكرة الإنسان ومنها إلى ذاكرة الإنسانية، وما أقصده هنا هو الاستخدام اليومي للغة بطريقة معينة مما يجعلها الطريقة الفصيحة -وليس بالضرورة الصحيحة- للتحدث بهذه اللغة، فتتجذر في الأجيال القادمة من متكلمي اللغة نفسها، فيقول العرب إسرائيل بدل فلسطين المحتلة، ويقولون الجهاديون بدل المتطرفين، أو الإسلاميون بدل الإرهابيين، وهكذا. هذه الكلمات والمفردات التي يتم ترديدها لغواً وخطأً وبلا حساب من قبل مثقفين وغير مثقفين في وسائل التواصل والنشر المختلفة تعلق، كما تعلق شوائب الهواء من غازات في الغيوم، ومع كثرة ترديدها يتم الخلط بين الصحيح والخاطئ منها، وبين أصل الفرع وفرع الأصل، وبين بعض الكل وكل البعض، وبين هذه الكلمة وتلك يتربى جيل يتشرب هذه الكلمات ويراها صواباً لا يأتيها باطل لا من فوقها ولا من تحتها، ومن ذلك تتطور اللغة ويرسخ تطورها في ذاكرة الإنسان والإنسانية.
من أقل واجباتنا أن نحافظ على لغتنا التي ستقوم بتربية أجيالنا على الصحيح والخاطئ. من أقل واجباتنا ألا ننسى.
جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق