(١)
استلمت الخميس الماضي شهادة تخرجي من كلية القانون في جامعة قطر. في عمر الثانية والعشرين، وأنا في بداية عمري فكرت في كل الشهادات والمستندات وأوراق الخبرة والعمل والتدريب والدورات والقوائم التي قد تُعرفني كفرد في المستقبل حال بقائي أو زوالي مع الزمن، وأدركت أن أحداً لن يتذكرها، فأصحاب العمل والزملاء والعائلة والأصدقاء وحتى أنا قد أتذكرها مؤقتاً فقط، لتزول بعدها، حيث إن الذاكرة كالعمر، حالة مؤقتة. ماذا سيبقى إذاً غير رقم يمثل عمري ومجموعة علاقات تتوزع بين عائلتي وأصدقائي؟ ما الفائدة إذاً من عمل الملايين ودراستهم من أجل شهادة جامعية أو خبرة هنا وهناك؟
الفائدة هي في خلاصة هذه الشهادات والأوراق، وما يعملونه بسببها، أي محطتهم الأولى بعد ذلك.
(٢)
لن يتذكر أحد لقب الأستاذ أو الدكتور أو المدير أو المهندس إن لم يستحقه الشخص عن جدارة حتى يلتصق اللقب بالاسم لا العكس. وهذا سببه أفعال الشخص وأعماله خلال حياته، فمن يثري الناس يثري نفسه، ومن يثري حياته هو، بالضرورة، كان قد أثرى حياة الناس وإلا لما استطاع إثراء حياته. وثراء الحياة يكون باكتساب والحرص على الدين والأخلاق والعائلة والأصدقاء، وأخيراً العمل. والعمل غير محصور بالعثور على وظيفة والإخلاص لها -وإن كان ذلك جيداً- بل بالاستزادة على ذلك والسفر والاكتشاف والاستكشاف والتعلم بشكل دوري والإنارة والاستنارة والمثابرة والسفر والتطوع والتعرف على شعوب وقبائل مختلفة وكثيرة حول العالم. وقتها سيتذكر الناس، لأن الإبداع صديق الذاكرة والتاريخ عدو الناس العاديين.
ملايين الطلاب أنهوا دراستهم، ولا ولن يتذكرهم أحد، وفي المقابل من سينسى الرسام الإسباني سلفادور دالي؟ والأديب الأميركي إدجار آلان بو «كاتب الأعصاب»، كما وصفه الشاعر الفرنسي بودلير؟
(٣)
هذه ليست دعوة لرمي الشهادات و»الهويات»، ولكنها إشارة إلى كونها وسيلة لا غاية، نصل عبرها إلى الإبداع حول العالم والتأثير في حياة الإنسان، وخوض التجارب الروحية والعميقة والجريئة، حتى نصل إلى المحطة التالية، لنقول على الأقل قبل ابتلاع البحر لخطواتنا على الشاطئ بأننا حاولنا!
جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
المصدر
استلمت الخميس الماضي شهادة تخرجي من كلية القانون في جامعة قطر. في عمر الثانية والعشرين، وأنا في بداية عمري فكرت في كل الشهادات والمستندات وأوراق الخبرة والعمل والتدريب والدورات والقوائم التي قد تُعرفني كفرد في المستقبل حال بقائي أو زوالي مع الزمن، وأدركت أن أحداً لن يتذكرها، فأصحاب العمل والزملاء والعائلة والأصدقاء وحتى أنا قد أتذكرها مؤقتاً فقط، لتزول بعدها، حيث إن الذاكرة كالعمر، حالة مؤقتة. ماذا سيبقى إذاً غير رقم يمثل عمري ومجموعة علاقات تتوزع بين عائلتي وأصدقائي؟ ما الفائدة إذاً من عمل الملايين ودراستهم من أجل شهادة جامعية أو خبرة هنا وهناك؟
الفائدة هي في خلاصة هذه الشهادات والأوراق، وما يعملونه بسببها، أي محطتهم الأولى بعد ذلك.
(٢)
لن يتذكر أحد لقب الأستاذ أو الدكتور أو المدير أو المهندس إن لم يستحقه الشخص عن جدارة حتى يلتصق اللقب بالاسم لا العكس. وهذا سببه أفعال الشخص وأعماله خلال حياته، فمن يثري الناس يثري نفسه، ومن يثري حياته هو، بالضرورة، كان قد أثرى حياة الناس وإلا لما استطاع إثراء حياته. وثراء الحياة يكون باكتساب والحرص على الدين والأخلاق والعائلة والأصدقاء، وأخيراً العمل. والعمل غير محصور بالعثور على وظيفة والإخلاص لها -وإن كان ذلك جيداً- بل بالاستزادة على ذلك والسفر والاكتشاف والاستكشاف والتعلم بشكل دوري والإنارة والاستنارة والمثابرة والسفر والتطوع والتعرف على شعوب وقبائل مختلفة وكثيرة حول العالم. وقتها سيتذكر الناس، لأن الإبداع صديق الذاكرة والتاريخ عدو الناس العاديين.
ملايين الطلاب أنهوا دراستهم، ولا ولن يتذكرهم أحد، وفي المقابل من سينسى الرسام الإسباني سلفادور دالي؟ والأديب الأميركي إدجار آلان بو «كاتب الأعصاب»، كما وصفه الشاعر الفرنسي بودلير؟
(٣)
هذه ليست دعوة لرمي الشهادات و»الهويات»، ولكنها إشارة إلى كونها وسيلة لا غاية، نصل عبرها إلى الإبداع حول العالم والتأثير في حياة الإنسان، وخوض التجارب الروحية والعميقة والجريئة، حتى نصل إلى المحطة التالية، لنقول على الأقل قبل ابتلاع البحر لخطواتنا على الشاطئ بأننا حاولنا!
جواهر بنت محمد آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق