الخميس، 17 سبتمبر 2015

الدولة السعيدة

العالم المسلم الكبير أبو نصر محمد الفارابي أو المعلم الثاني، كما يُلقب، نسبة لأرسطو «المعلم الأول» لإنجازاته في علم المنطق، لم يُبدع ويُضف في هذا المجال فقط، بل كانت له بصماته المحسوسة في الفلسفة والاجتماع والسياسة والعلوم وحتى الموسيقى. وما يهمني في مقالي هذا علاقته بالفلسفة، وخاصة بالأساتذة التلاميذ أفلاطون وأرسطو.
تأثر الفارابي بالفلاسفة اليونانيين كثيراً، وحاول الجمع بينهم وكتب عنهم وزاد عليهم. كتب عن المدينة الفاضلة التي حلم أفلاطون بها في كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» مع الفوارق الواضحة في عوالم هذين القطبين. و»المدينة» الفاضلة التي تعادل ما نسميه «الدولة» في زمننا هذا، هي باختصار مبسط، المدينة التي يتعاون فيها أفراد المجتمع لنيل السعادة عبر الفكرة والعمل.
هذه الدولة الفاضلة هي حلم الكثير من الدول والأفراد، الكل يسعى وراءها ومن أجلها، ولهذا كتب الإنجليزي توماس مور روايته «يوتوبيا»، ولهذا نجد الدول تتفاخر عند وجود شعوبها في قوائم الشعوب الأكثر سعادة في العالم، ولهذا نرى دولاً كالبوتان تهتم بمقياس السعادة المحلية الإجمالية، على غرار الناتج المحلي الإجمالي في دول العالم!
هذه التصنيفات للدول وشعوبها وطبيعتها، تجعل المرء يحتار في حال دولته، هل هي سعيدة؟ هل هي فاضلة؟ وهل تكفي أن تكون سعيدة دون الفضيلة؟ وما هي الفضيلة؟ وبأي معيار نقيسها؟ وما هي السعادة؟ هل هي الإنجاز أم الإيمان أم المال؟ هل السعادة هي الاكتفاء؟ وأي نوع منه؟ أم هي مجرد شعور يصله العقل والقلب ويُقطع وصله في أي وقت؟ وهل سيساعدك عزيزي القارئ معرفة أن وزراء السعادة حول العالم -وغالباً هم من وزراء العمل والضمان الاجتماعي- يرتبطون بطريقة أو بأخرى باقتصاد الدولة وطريق المال إليك؟
لأزيد من ورطة الحيرة، سأعرفكم بتصنيفات الفارابي لأشكال أخرى مختلفة للدول، واحتفظوا بأسماء الدول التي تقفز إلى أذهانكم. هناك الدول الشريرة التي لم يعرف شعبها السعادة الحقيقية، ويتعاون شعبها على أن يكونوا ممدوحين مُكرمين. وهناك الدول الخسة التي تتجسد غاية أهلها في التمتع باللذة من المحسوس والتخيل وإيثار الهزل واللعب. وهناك دول التغلب التي يقصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم وهدفهم لذة الغلبة. والدول الجماعية وأهلها ممن يفعل كل ما يطيب لهواهم. والدول الفاسقة التي يعلم أهلها السعادة والله والعقل الفعال، ولكنهم يعملون أفعال المدن الجاهلة. والدول المتبدلة التي كانت آراء أهلها وأفعالهم مطابقة لأهل الدولة الفاضلة إلا أنها تبدلت فدخلها الفساد. وأخيراً الدول الضالة التي تعتقد في الله والعقل الفعال آراء فاسدة، ويدعي رئيسها أنه موحى إليه.
يُميز الفارابي -بحسب تعبير شاكر بن شيهون- بين أشكال الدول المختلفة، على أساس معرفتهم الناقصة للسعادة الحقيقية، وهذا ما يضع كل دولة في مرتبتها بحسب تصنيفه، ويُميز الدولة الفاضلة.
بعد كل هذه الفواصل والنقاط، يُصبح البحث عن معنى السعادة الحقيقية داخل كل فرد أمراً حتمياً، حتى تصل السعادة إلى مرحلة الدولة بالعمل والأفكار الخلاقة، وإلا كان كل ما قيل، مجرد «فلسفة»!


جواهر محمد عبد الرحمن آل ثاني
صحيفة العرب القطرية
المصدر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحقيقة الفلسطينية

        الشمس لا تُغطى بغربال، و الحقيقة كذلك. طوال العقود الماضية، كانت حقيقة ما يجري في فلسطين، و الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُملى على م...